التكريم الذي ذكّرنا بإنسانيتنا
قاسم حسين
من الأخبار النادرة التي تشيع الأمل والمحبة في القلوب هذه الأيام، تكريم إحدى قرى الأحساء لعامل نظافة بنغالي، عمل في محافظتهم خمسة عشر عاماً، لم يزر خلالها موطنه ليدّخر ما يوفّر به حياةً أفضل لأسرته ويخرّج أولاده الثلاثة أطباء.
العامل محمّد عبدالوهاب ظهر في الصورة معتمراً قبعته الصوفية، وهو يتلقى هدية أهالي قرية المنصورة، في أعقاب صلاة الجمعة، في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي. والمؤسف أنه حدثٌ نادرٌ في الخليج، رغم كثافة وجود العمالة الآسيوية الفقيرة التي تقوم بأغلب الأعمال الصعبة، وتتحمّل أقسى ظروف الطقس في فصول الصيف أو الشتاء.
هذه الألوف المؤلفة، من طبقة العمال البسطاء الذين يعيشون بيننا، يستكثر بعضنا أن يستقبلهم صباحاً بإلقاء تحية أو ابتسامة ودّ. يعيش أكثرهم قصص كفاح مشرّفة، من أجل إعالة أسرهم وأهليهم، ويعانون الغربة وآلامها المبرّحة، مما لا نعيشه إلا في حالاتٍ قليلةٍ، كالدراسة في الخارج، أو الهجرة القسرية بسبب الأوضاع السياسية أو الاقتصادية المتأزّمة.
هؤلاء المنسيّون لا نتوقف لسماع قصصهم ولا نسأل عن تفاصيل حياتهم أو أوضاع عوائلهم التي تركوها وراءهم في الوطن البعيد. حتى الشغّالات اللاتي يعملن في أكثر منازلنا، ويخفّفن أعباء حياتنا ويتحمّلن الكثير من حماقاتنا وتنمّر أطفالنا، نادراً ما نلتفت للسؤال عن أوضاع أسرهن وأزواجهن وأطفالهن، ولو من باب إبداء التعاطف والمشاركة مع مخلوقٍ بشري يعيش معنا طوال اليوم.
تكريم هذا العامل تحديداً، كشف لنا جانباً مضيئاً ومبهراً من حياة هؤلاء الكادحين، فهو أبٌ لثلاثة أولاد، الأولى تخرّجت طبيبة مؤخراً، والثانية التحقت بكلية الطب، والثالث ابنٌ في سنواته الأخيرة من دراسة الطب أيضاً. وعلى هذه الحقيقة علّق أحد المشاركين في تكريمه مقارناً: «إنه أبٌ لثلاثة أطباء، بينما يعجز بعض الآباء عن إقناع أبنائه بإكمال دراستهم المتوسطة». وحين حاولوا تقليده إكليلاً من الورود، رفض ذلك قبل أن يُلفّ به عنق إمام المسجد احتراماً لمكانته. وردّ الإمام بقوله إن هذا التكريم «أفضل من إلقاء محاضرة طويلة مليئة بالنظريات، فهذا العامل نموذجٌ مشرِّفٌ للأب المكافح الذي جعل أبناءه الثلاثة أطباء، رغم الغربة والتعب والجهد، والنظرة الدونية من قبل البعض... فتربيتنا وديننا ومواطنتنا توجب علينا أن نعاملهم كأنفسنا، لأنهم يستحقون أكثر».
مثل هذه التكريم، يعيد إلينا جزءاً من إنسانيتنا التي فقدناها، حتى ظهرت لدينا صورٌ وأشكالٌ من الممارسات العنصرية، يتفاخر بعضنا بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، ككسر مصباح زجاجي على رأس عاملٍ يمشي بالطريق، أو إلقاء آخر في البحر وهو غافلٌ، فضلاً عن المعاملة اللفظية الفظّة مع عامل البرّادة الصغيرة، وصور الضرب والصفع لبشرٍ اضطرهم الفقر والحاجة إلى هجر أوطانهم في سبيل لقمة عيشٍ كريمة، حوّلناها إلى وجباتٍ من الذلّ والمهانة.
هذه السلوكيات والممارسات العنصرية، تكشف ما نعانيه من أمراضٍ أخلاقية، وانفصامٍ في الشخصية، فنحن لدينا تلفزيونات وإذاعات تبث على مدار الساعة سور القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وجيوش من الخطباء والوعاظ، تدعو جميعاً إلى الرفق وحسن المعاملة الإنسانية، لكن... «ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون».
إن علاج هذه الأمراض تبدأ من البيت... هناك نربّي أبناءنا ليكونوا بشراً، أو نحوّلهم إلى حيواناتٍ جامحةٍ شرسة الأخلاق.
الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2016/01/15