العلمانية هل ينجبها رجال الدين
مجاهد عبدالمتعالي
قام رجال الدين من كلتا الطائفتين بإخراج مثالب بعضهما أمام أتباعهما، في كل الجوانب العقائدية وحتى الشخصية تكفيراً وتفسيقاً وتبديعاً، ومع تزايد الصراع بين رجال دين الطائفتين استجابت الجماهير في البداية إلى حد الاشتباك في حروب دينية ومنها حرب الثلاثين عاما
كان المنظرون لما بعد (الربيع العربي) يعتقدون أن الشعوب العربية ستمر بإرهاصات طبيعية بدأت منذ حركات التحرر الوطني التي قامت ضد الاستعمار بعناوين مختلفة، لينتهي النضال ضد الاستبداد الأجنبي الذي مثله المندوب السامي كفرد أجنبي، وجاء الربيع العربي كإفراز طبيعي ضد الاستبداد الذي يمثله الحاكم العربي كفرد، لتبدأ الشعوب عبر الديمقراطية في جولتها الثانية ضد الاستبداد، حيث سيحكم الإسلاميون العالم العربي، ويهيمنون عليه أيديولوجياً لتنتقل الشعوب العربية إلى المرحلة الثالثة، وهي الثورة ضد استبداد الأيديولوجيا المهيمنة على سلوك الفرد باسم الدين، أي أن المرحلة الأولى: ثورة ضد الأجنبي بالنضال المسلح، الثانية: ضد استبداد الفرد بالنضال السلمي، الثالثة: ضد استبداد الأيديولوجيا الملتحية بصندوق الاقتراع، وكل هذا المشوار للوصول إلى العلمانية، ابتسرته الأحداث المفاجئة في ليبيا عبر الناتو، وفشل الإسلاميين في إدارة حكم مصر مثلاً، وما استتبع ذلك من ارتدادات على الواقع العربي.
هنا نعيد السؤال المحوري والمباشر عن الطريق الذي سيتجه إليه المستقبل عبر رجال الدين أنفسهم، والسؤال هو: من يخدم العلمانية أكثر؟ رجال الدين أم رجال النهضة الحديثة من مختلف التيارات خارج دائرة (الإسلام السياسي)؟ في اعتقادي أن رجال النهضة الحديثة لا يخدمون العلمانية بأي شكل من الأشكال، بل يريدون تفصيل العلمانية وفق هوية بلدانهم، ليأخذوا منها الإيجابي ويطرحوا السلبي، بينما كثير من رجال الدين ـــ وخصوصاً المتعصبين ــ يخدمونها بكامل حمولتها اللائكية وصورها الأشد صرامة.
العارفون يدركون أن العلمانية من حيث نشأتها لم تكن ترفا فكريا قرره أحد الفلاسفة اعتباطاً واعتمده أحد ملوك أوروبا، بل كانت ضرورة ومعاناة بدأت بإرهاصات قام بها رجال الدين أنفسهم عبر الدماء التي سفكت في سبيل الصراعات الدينية، ليهيئوا خروج هذا الوليد المسمى (العلمانية) من أذهان الفلاسفة والمفكرين، كمخرج إنساني من حمام الدم في هذه الحروب الطائفية، وهنا نحاول (بشكل مبتسر وقاصر) استعراض بعض هذه الخدمات التي قدمها رجال الدين المسيحي لميلاد العلمانية دون رغبة منهم في ذلك، لكنها الوقائع التي فرضت نفسها عن طريقهم وبأيديهم لتنشأ فكرة العلمانية في أذهان المفكرين والعقلاء كمخرج وحيد ويتيم للمأزق الذي انساقت إليه الشعوب الأوروبية على يد رجال الدين من بروتستانت وكاثوليك.
كان رجال الدين يعتبرون سلطتهم الروحية على الشعب هي الوقود الخصب الذي يحتاجه ملوك أوروبا لبسط نفوذهم، فاستخدمهم السياسي لبسط نفوذه الجغرافي، واستخدموه لبسط نفوذهم الروحي، ثم حصلت الحروب البينية بسبب الخلافات المذهبية بين بروتستانت وكاثوليك (الأحداث هنا مبتسرة جدا)، ولكن تكفي الإشارة إلى الصراعات المذهبية التي كان دافعها الحقيقي صراع نفوذ سياسي.
قام رجال الدين من كلتا الطائفتين بإخراج مثالب بعضهما أمام أتباعهما، في كل الجوانب العقائدية وحتى الشخصية تكفيراً وتفسيقاً وتبديعاً، ومع تزايد الصراع بين رجال دين الطائفتين استجابت الجماهير في البداية إلى حد الاشتباك في حروب دينية، ومنها حرب الثلاثين عاما، وكان من نتيجة تبادل التهم مع طحن الحرب لرؤوس هذه الجماهير وجماجمها من كلا الفريقين، كانت نتيجته ولادة فئة ثالثة مارست التفكير الحر المستقل بعيداً عن كلا الطرفين، متأملة هذا التمزيق الممنهج الذي يقوم به كل طرف لمعتقدات الآخر.
بعد الوصول إلى حالة الإشباع من سفك الدم بين كلا الطرفين اكتشفت الجماهير أن حقيقة الصراع ليست عقائدية بقدر ما هي صراع نفوذ سياسي، ولكنها لم تغفر لرجال الدين ومن يقف وراءهم هذا الاستنزاف من دمها ودم أبنائها بدعوى حماية العقيدة الكاثوليكية أو البروتستانتية، فكان حماسها المرتد ضد رجال الدين ومن وراءهم من الداعمين بالسلاح والمال مؤذناً بظهور العلمانية التي أقصت رجال الدين من ساحة (صكوك الغفران)، وأقصت أيضاً من وراءهم ممن يحكم بدعوى الحق الإلهي لتتخلص أوروبا لبعض الوقت من استبداد الفرد بعنوانه القديم (الحق الإلهي)، وتستمر في تجريبها القاسي الملطخ بالدم وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية، ومخرجات الاستبداد الفردي بدعوى (العقد الاجتماعي) الذي انتهت حقبته (هتلر، ستالين، موسوليني.... إلخ)، ولم يبق ما يشبهها في عصرنا هذا سوى ما نراه من تكريس (عبادة الشخصية) ماثلاً في طفل كوريا الشمالية.
عندما يحرص رجال الدين في زمننا المعاصر أن يتحولوا إلى طائفيين أو أن يجعلوا أتباعهم وقودا لهذه الطائفية، ثم تقوم الطائفة الأخرى بردات فعل موازية لهذه الطائفية في القوة ومعاكسة لها في الاتجاه، فإن هذا التطاحن المذهبي هو جرثومة العلمانية وميلادها الحقيقي الذي يتزعمه رجال الدين دون أن يشعروا، بينما الزعامة الهجين لعلمانية هجينة هي ما يرجوه رجال النهضة محاولين من وراء ذلك القفز على الحروب التاريخية لما قبل العلمانية.
رجال النهضة في عالمنا العربي الذين تحمسوا للعلمانية محاولين القفز على الحتمية العقائدية التي يريدها رجال الدين في استباحة دماء المسلمين على أساس طائفي، تناسوا أن رجال الدين لن يقبلوا هذه القفزة المعرفية دون أن يعمدها رجال الدين ويباركوها على مذبح الطائفية بدم أتباعهم قبل دماء خصومهم، فقد قرر رجال الدين المسلمون من متطرفي السنة والشيعة والداعمون لهم (سراً وعلناً) أن يعمدوا العلمانية بأيديهم وبفتاواهم وبجحر الضب الضيق الذي دخلته أوروبا في عصورها المظلمة ليدخلوا أتباعهم فيه، متجاهلين حقيقة حركة الشعوب التي لا تقاس ببضع سنوات، بل بالعقود والتي سيكونون هم أول ضحاياها دون أن يشعروا، ليصنعوا من الطائفية التي يريدون إقامة زعامتهم فيها على جماجم أتباعهم وخصومهم، إلى مناط انقلاب عكسي عليهم وعلى مناهجهم لتتحقق جدلية التاريخ فيمن لا يريد الاستفادة من دروسه وعبره الظاهرة في الأمم الأخرى.
للأسف لن يكون (المستقبل البعيد) لعلمانية معتدلة كما يريد النهضويون، بل ستكون علمانية لائكية متطرفة، كما يجهز لذلك رجال الدين أنفسهم بتعصبهم الأعمى، ليحققوا ضد توجههم ما يزعمون محاربته، تلك حقيقة تراها العين إن استمرت النخب السياسية في العالم الإسلامي تستجيب لهذا العطش الطائفي الدموي، دون إيجاد مخرج يصون دماء شعوبها، فمعركة (القادسية) وقعت قبل ألف وأربعمئة سنة، وعندما أراد تكرارها صدام حسين انتهت إلى لا شيء، ليكمل مشواره في طرح أسماء الحروب وصولاً إلى (أم المعارك) كاسم أثبت التاريخ أنه بلا معنى سوى معنى الدم والدمار والجوع الذي بقي كإرث ثقيل تعاني المنطقة من تبعاته حتى الآن وليس العراق وحده.
همسة أخيرة: علاقتنا بإيران تستوجب استثمار فترتنا الحالية بأقصى حد للوصول إلى أعلى التسويات والمكاسب السياسية بالتصعيد الممكن (من غير تهور) أو المناورة المعتدلة أو بهما معاً، فالانفراج الكامل للعلاقات الإيرانية مع قوى العالم إن اكتمل ونجح كما هو مجدول له من كل الأطراف المشاركة فيه وعلى رأسها أميركا، سيعني صفحة جديدة لخارطة القوى ومراكز النفوذ في الشرق الأوسط، يجب أن نحاول المشاركة في تحديد مقاساتها القادمة قدر الإمكان من دون أن (تضيع الأرض في شراء السماد)، وما يمكن تحقيقه الآن سيؤسس لعقود من حقوق الجوار الاضطراري أو الاختياري.
الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/01/18