عملاق وطبق بيض
محمد أحمد بابا
العملقة هوس المنظرين والراسمين لخرائط المشروعات التي يفترض خدمتها للإنسان وتسهيل حياته وتقصير المسافة الحسية والمعنوية بينه وبين احتياجاته.
دوما توصف المشروعات بالعملقة، فهذا مركز عملاق، وتلك مؤسسة عملاقة، وذاك مشروع جبار، وهناك دائرة خدمات عملاقة.
يقصد الواصفون الضخامة والاستئثار بمساحات هائلة من الأرض لصالح تلك العملقة وما يتبعها من أماكن خدمات ومرافق تزيد في عملقتها الاستيطالية حتى تقصر صلاتك وأنت ذاهب من بوابتها الخارجية لأول جزء من حقيقة مبانيها.
أزعم بأن التفكير العملاق هو توزيع تلك العملقة على أقزام هنا وأقزام هناك، متشابهة في الخدمة متساوية في القيمة تخدم أكبر قدر ممكن من المستهدفين دون الحاجة لأن يحملوا هم وعثاء سفر وسوء منقلب لعملاق هناك.
كم من مستشفى مركزي ضخم، ومجمع تعليمي أضخم، ومدينة جامعية عملاقة، ومحطة لخدمة جبارة، ومولات للتسوق خرافية، ومجمعات سكنية ذات اتساع مخيف، وأبراج زاحمت الفضاء.. وغير ذلك كثير من المشروعات ذات القيمة المالية الهائلة.
ولو نظر مهندسوها ومقترحوها وواضعو أساسها للخدمة الإنسانية لاستنسخوا من كل مشروع عشر نسخ مصغرة يفرقونها ولو مبعثرة في مدينة ما، كانت الخدمة أضبط وأجدى وأحسن وأعم.
أتوقع أننا نحتاج عملقة خدمات لا عملقة بنايات، لأن تلك العملقة لم تفز إلا بكثير من (البحلقة) قد تكون فقط من عين عائن تودي بها أرضا.
من ناحية اقتصادية أتفهم جدا تأثير العملقة في اقتصاديات الشركات والأسواق مردود مال ومتانة اعتماد، ولكن الناحية الاجتماعية الخدمية تحتم مراعاة المستفيدين بكل شرائحهم وكل أحوالهم ومناطق سكنهم ودائرة تنقلهم.
فلقد عانت التنظيمات الحكومية سابقا من مركزية الخدمة المرجعية بانحصارها في مدن كبيرة، مما جعل المستفيد الخارجي يتكبد عناء التنقل ولزوميات المصاريف كي يحظى بخدمة هو في أمس الحاجة لها.
ما يدعوني لأن أستجدي كل مسؤول كبير في قطاع حكومي أن ينظر للقرية ذات نظرته للمدينة المركزية في تقدير احتياجات أهلها هو هذا السرد المخيف من أرقام تكاليف مالية لمشروعات عملاقة لو قدر لها خدمة كل سكان الوطن لاحتاجت لشبكة قطارات نفاثة توصلهم إليها.
ومن مثال بسيط يمثله مستشفى الولادة والأطفال في مدينة ما وحيد كبير عملاق ضخم في طرف من أطرافها لا تصله امرأة على وشك الوضع في طرف مقابل بذات المدينة إلا إذا احتاطت لذلك بأن تذهب قبل بدء طلق أو علامات مخاض وإلا لحدثت الولادة في سيارة تقلها، يتبين الفرق.
ما الذي يمنع تقسيم القيمة المالية التي شيد بهذا هذا المستشفى لجزأين أو ثلاثة، يكون فيها مستشفى مصغر في كل طرف يخدم من حوله؟
ومن الملاحظ أن العملقة حرمت الأقزام الذين لا يسألون الناس إلحافا ويرجون كفافا في هذا الدنيا من منشآت صغيرة أخذ حقها من زبائن خدمها لأن مبدأ حوت عملاق يبلع حوتا ناعما لطيفا هو السائد في شجع العماليق.
لسنا في العالم وحدنا، ففي دول مجاورة وأخرى في شرق العالم وغربه ما يستحق التقليد من وجود مواقع خدمية صغيرة جدا وأخرى متوسطة وثالثة كبيرة ورابعة عملاقة، ومع كل ذلك تجد لكل رواده، ولكل رزقه ودخله، في رضا تام عن الأرباح المادية والمعنوية.
مجمعات المدارس ناجحة، لكن مدرسة ذات فصل واحد لكل مرحلة ناجحة أيضا، وجامعة تضم فروعا في كل محافظة وتجمع كافة التخصصات ناجحة، لكن جامعة ذات طابقين وحسن تعليم ناجحة أيضا، وصالون حلاقة فيه عشرون كرسيا ناجح، لكن صالون الحي الذي به كرسي واحد اعتاد على خريطة ذقنك ناجح أيضا، ولمجمعات التسوق الغذائي نجاح كبير لمن له طول بال على طابور المحاسبة مع المحافظة على طبق البيض من الكسر، لكن (دكان) الحارة الذي يتيح لك شراء خمس بيضات بريالين وقرص خبز واحد بنصف ريال ناجح أيضا.
صحيفة مكة
أضيف بتاريخ :2018/03/12