خريجو الأسنان الصيت ولا الغنى !
فؤاد مصطفى عزب
كتب لي طبيب شاب (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وفقني الله اليوم أن أقنع أحد أقاربي أن لا يلتحق بكلية طب الأسنان، شعرت لأول مرة في حياتي أنني داعية وأنقذت شخصاً من الضلال وأرجعته لطريق الحق والهداية)، ضحكت ودموع غزيرة في عيني فحينما يزهر الحزن في الأعماق ليس لك إلا مرارة الضحك، فما يعبر عنه هذا الشاب هو المعاناة أو لنقل المأساة الحقيقية التي يعيشها أطباء الأسنان حديثو التخرج ومنذ فترة طويلة للدرجة التي جعلتهم يشفقون على الدارسين الجدد في كليات طب الأسنان فمستقبل طبيب الأسنان الخريج أسود دامس يزداد عتمة كل يوم فحين تذوب الشموع تزداد وحشة الأماكن وترتفع الهواجس.. هؤلاء الخريجون لكل منهم حكاية من حكايات الدنيا القاسية تفوح منها رائحة شباب شاخوا وهم على شط حياة جديدة؛ كانوا يحاولون إثبات وجودهم في هذا العالم ليجدوا أنفسهم فجأة في مركب البحر أمامهم والبطالة خلفهم والمسؤولون عنهم في مركب آخر ومنبع الصوت منطفئ بين الاثنين، ويزداد مركب الخريجين ثقلاً والموج يأخذ الطرفين للبعيد كل في اتجاه بحيث أصبح صراخهم يتفتت ركاماً في الداخل والمركب يهرول بهم نحو غربة قاتمة.. معظم خريجي كليات الأسنان يقبعون في بيوتهم يجلسون على رصيف المرفأ ينتظرون أقدارهم، عيونهم تحدق في الأفق، يتسولون العزاء من أهاليهم لمواساتهم في فجيعتهم الذين يصرفون عليهم ويغرقون في عمق بئر الأحزان، مستسلمين لقدرهم المحسوم بعد أن عاشوا خيال أوهام صور شحيحة نصفها من الواقع الباهت والآخر من الخيال الفاقع بألوانه.. هؤلاء الخريجون يعيشون حالة انتقالية كمن يدخل الجحيم وليس من بديل له سوى الاعتياد عليه والسير على جمره دون التأثر بحروقه هذا الجحيم القسري الذي تعلموا ألا يقارنوه بالموت، فهم ليسوا موتى بل أحياء عند أهاليهم يأكلون ويشربون ويقيمون، تتفتح في لحومهم كل يوم جروح نازفة لا تندمل، والمحزن أنه حتى من واصل منهم التخصص وأصبح مؤهلا بدرجة رفيعة في تخصص دقيق (كجراحة الفك) لا بد أن يرتضي بالعمل في مرفق حكومي لا تتوفر فيه أدنى الإمكانيات لممارسة تخصصه الدقيق، وإن تقدم بمطالبه للالتحاق بمركز حكومي آخر متخصص يتم رفض طلبه وكأنه عهدة أثاث مكتبي لا يمكن التصرف فيها؛ ليتوه في دوامة الروتين الحكومي العقيم وبعض العنجهية الإدارية المتسلطة التي لا تقدس حرفية هذه القدرات الوطنية ولا تسعى لحل مشكلة الإمكانيات المحدودة.. هناك قول قديم يقول (أعظم ما في الوجود أن ندرك معنى ثرواتنا)، وهذا الطبيب ثروة مهدرة، سألت تلك الإمكانية البشرية إن كتب للمسؤول ليقول لي (لقد تكلمت من قعر حنجرتي نباحاً مخفوقا حادا كشفرة على جرح نازف وكتبت ولكن كأنني أحاكي نفسي بحيث أصبحت الكتابة لي أمراً موجعاً الكلمات التي تتسرب إلى الورقة أصبحت تؤلم يدي وروحي)؛ هذا شأن المتخصص المتقدم الإمكانيات، أما حديثو التخرج فقوافلهم أصبحت تعج بالمئات والذين استسلموا إلى حاضر لا آتي له ولا مستقبل، وسؤالهم المتكرر لم يحظ بجواب، ونظراتهم مسمرة على فم تنتظر من الشفتين حركة تشفي قلقهم أو جوابا يطمئن خوفهم أو حتى التفاتة أليفة تشاطرهم أساهم وتعيد لعيونهم الجافة ماءها.
صحيفة عكاظ
أضيف بتاريخ :2018/03/21