جمال خاشقجي … ما له وما عليه
طراد بن سعيد العمري
نجح الكاتب والإعلامي الأستاذ جمال خاشقجي في تحقيق شهرة غير مسبوقة ككاتب وإعلامي وأصبح يستحوذ على اهتمام الصحافة المحلية والخليجية والعربية والعالمية. لا نقول هذا من سبيل التهكم، بل ذلك حقيقة بالرغم من مرارتها للبعض. نجزم بأن تلك الشهرة لم تأت صدفة أو هدية بل مرت بمراحل من المعاناة في رحلة جمال الصحفية والإعلامية وجلبت له متاعب لا تحصى ولا تعد في رحلته الطويلة. أليست الصحافة والإعلام هي مهنة المتاعب كما يقال؟ الشهرة مطلب يبحث عنها كثير من البشر كأفراد، كما تبحث عنها الدول والمجتمعات. الشهرة في معظم الأحيان تهدف إلى غاية نبيلة، لكن الاختلاف يكون عادة في الوسائل المحققة للشهرة. سُئل الشاعر البحريني عبدالرحمن رفيع، رحمه الله: ماهي أقصر الطرق إلى الشهرة؟ فقال: “المشي عارياً في الأسواق”.
قد لا يتفق كثير من الكتاب والإعلاميين في السعودية مع طرح جمال خاشقجي في القضايا السياسية والعلاقات الدولية، وكاتب هذه السطور واحد منهم، لكن الاختلاف في الرأي ظاهرة صحية ومطلوبة. فجمال لا يملك الأدوات المعرفية للكتابة أو الحديث في السياسة والعلاقات الدولية، فهو ليس متخصص في علم السياسة أو التحليل أو أصول وقواعد الجدل السياسي، لكنه مثل كثير غيره ممن امتطوا صهوة الكتابة في الشأن السياسي حتى باتت تلك الكتابة في مثل هذه الأيام موضة أو صنعة من لا صنعة له. ولو أخذنا مسطرة قياس لأولئك الكتاب فلربما نجد أن جمال خاشقجي أفضلهم وأشهرهم بالرغم من نقائصه المعرفية وعلله التحليلية. كان ينقص جمال الانتظام في جامعة ودراسة السياسة العالمية كما يفعل بعض الإعلاميين في هيئة الإذاعة البريطانية وبعض القنوات الفضائية، لكسب العلم والمعرفة والمتلقي من قراء ومشاهدين.
في المقابل، نجد أن جمال كاتبا مبدعاً في الشأن المحلي، خصوصاً عندما يكتب عن هموم الوطن والأمور التي تتعلق بالقضايا والتحديات الحياتية والمعيشية للمواطن، فتأثير كلمات ومصطلحات وكتابات جمال في الشأن المحلي أكبر وقعاً وأكثر نفعاً وأعظم تأثيراً، لكنها بالنسبة له، على مايبدو، تخلق الكثير من العداوات على المستوى المحلي مما يقيد من سرعة الشهرة وسهولة الحركة. ولذا، قرر جمال أن يهجر الشأن المحلي ويتجه إلى فضاء أرحب وأوسع قد يجعل منه كاتباً جدلياً أو اختلافياً أو حتى غير محبوباً أو مهضوماً، لكن لا مكان لعداوة تقف حائلا أمامه في طريق النجومية والشهرة. بات جمال خاشقجي شبه مرفوض ومنتقد من شرائح كثيرة في المجتمع السعودي، كثير منها بسبب الغيرة والحسد، وقليل منها موضوعي. لكنه يبقى الأكثر متابعة. يشبّه بعض الحساد أسلوب جمال خاشقجي بالأسلوب المستفز للفنانة الخليجية “أحلام”؛ معظم النساء في السعودية ينتقدونها لكنهم يصرون على مشاهدتها ومتابعة أخبارها.
سألني بعض الزملاء والأصدقاء عن رأيي في ما يكتب جمال، فقلت: أن كتاباته وحديثه في السياسة وعنها، يصيبني بشيء من الغثيان. فبادرني الزميل: ولماذا تتابعه وتقرأ مقالاته إذاً؟ فرددت مقولة غازي القصيبي، رحمه الله: “من باب تعويد النفس على المكاره”. لم يعد جمال خاشقجي كاتباً مغموراً أو من الدرجة الثانية، ولذا فأخطائه تنعكس سلباً على الوطن وصورته في الخارج. الكتابة أو الحديث في الشأن السياسي، ليس كالحديث عنها في المجالس الخاصة. السياسة علم متشعب والكتابة والحديث عنها فن له قواعده وأصوله، فالظهور على شاشات التلفزيون واستغلال أحداث سياسية لطرح وجهة نظر أو أيديولوجية شخصية هو “تعبير بالتمني” كما يقال. وهذه مسألة أخرى يقع فيها جمال مما يعطي انطباعاً بأن ذلك الرأي تم استقاءه من مصادر رسمية أو يمثل وجهة نظر الحكومة.
إتسمت مسيرة جمال خاشقجي في الصحافة والإعلام بصفات وسمات أهمها، تغلغل ظاهرة “النجم” في شخصية هذا الكاتب، وخصوصا بين محطة صحيفة “الوطن”، والقفز بعدها إلى محطة “قناة العرب” وما بينهما. هذه الظاهرة تناولها الكاتب المخضرم محمد حسنين هيكل في كتابه عن الرئيس السادات وأكد ما معناه أن تموضع ظاهرة “النجم” في الفرد تفرض عليه أن يكون مشعاً ومتلألأً على الدوام، ومن دون ذلك سيسقط ويتهاوى. ولذا، يجد المراقب والمتابع للصحافة السعودية خللاً وتضاداً وتناقضاً في أطروحات جمال، لكن كل ذلك بفعل تأثير ظاهرة “النجم”. ونتوقع أن هذه الظاهرة ستخبت بعد أن يجد جمال ذاته.
نجح جمال خاشقجي في توظيف كل محطاته لكي يبرز ويشتهر وهذا من أبسط حقوقه. كان كاتباً صحفياً، وكان رئيس لتحرير صحيفة الوطن، وكان ومازال مدير لقناة العرب التي يملكها أمير أعمال سعودي، وكان مستشاراً للسفير السعودي في واشنطن ولندن، وكان ذلك السفير أمير من العائلة المالكة، وكان ذلك السفير الأمير، أيضاً، رئيس للإستخبارات السعودية لحقبة طويلة وهامة. ولذا لم يقم جمال خاشقجي بإدعاء صفة وهمية أو غير حقيقية. صحيح، أن صفة “مقرّب من العائلة الحاكمة” أو “مقرّب من دوائر صنع القرار” التي يذكرها مقدمي البرامج الحوارية، تزعج الكتاب والإعلاميين وحتى وزارة الخارجية السعودية، لكن جمال خاشقجي إعلامي ذكي يعرف أن مصداقيته يشوبها كثير من الخلل فيتمثل مقولة “لم أمر بها لكنها لم تسؤني”.
حقق جمال خاشقجي فوائد جمة من ارتباطه بـ “قناة العرب” التي لم يكتب لها النجاح حتى الآن، وتم وقف بث برامجها بعد (١٠) ساعات فقط من انطلاقها من المنامة في البحرين. لكن جمال لازال مديراً لقناة العرب، مما يعطيه صفة تغري كثير من المحطات والقنوات الفضائية لاستضافته والتقرب إليه، خصوصاً وقناة العرب مملوكة لأمير أعمال سعودي. في المقابل، حققت “قناة العرب”، مع وقف التنفيذ، فوائد جمة من بقاء جمال مديراً لها، واسم ونجومية وشهرة جمال خاشقجي. فظهور جمال بصفته مدير لقناة العرب، وتصريحاته النارية وتنبؤاته السياسية المثيرة للجدل في القنوات الفضائية الخليجية والعربية والعالمية، هي دعاية مجانية تنعكس إيجاباً على القناة.
كتب جمال خاشقجي مقال في صحيفة “الحياة” بعنوان “مقال عني”، لكن ذلك المقال أثار شفقة الكثير من الكتاب في الإعلام السعودي، منهم من رأى في ذلك المقال تأكيد للهث جمال نحو الشهرة وتأكيد لظاهرة “النجم”. أخرون ذهبوا إلى أن المقال اعتذارياً بامتياز بعد أن أفسد جمال بآرائه وتصريحاته علاقة مع جهات رسمية وسيادية كان يأمل في متانتها واستمرارها وجذب انتباهها. قلة من المراقبين جادلوا بأن المقال نابعاً من وقفة للكاتب مع النفس وشعور بأزمة تواصل بين الكاتب ومحيطه. فريق رابع ذهبوا إلى أبعد من ذلك، بأن المقال بداية النهاية، أو بداية مرحلة أخيرة من رحلة جمال في “البحث عن الذات” التي بدأها قبل أكثر من ثلاثة عقود. أما نحن فنجادل بأن المقال خليط من الآراء السابقة، مع التسليم بأن الدافع والمعنى والرسالة والهدف يبقى “في بطن جمال”.
حالة التناقض التي يعيشها جمال خاشقجي الصحفي والكاتب والمثقف والإعلامي تجسد تعبيراً حقيقيا عن الإعلام السعودي بكل تناقضاته بين: الإعلام الرسمي والأهلي؛ والديني والسياسي؛ والتقليدي والتجديدي؛ والمحافظ والليبرالي؛ والبدوي والمدني؛ والفردي والجماعي؛ والمحلي والدولي. ولذا تحول جمال الشاب المديني القادم من طيبة الطيبة بوداعة وسذاجة وطيبة وسكينة أهل المدينة المنورة، إلى ماكينة إعلامية بشرية بكل مافي الفرد السعودي من تضاد، ومافي الإعلام المخضرم من تعقيدات متناقضة. كما فشل جمال في التفريق بين ماهو كائن وما يجب أن يكون في مقالاته. ببساطة يريد جمال أن يأكل لحم البقرة ويشرب حليبها في آن واحد.
أخيراً، ننصح الأستاذ جمال خاشقجي، الصحفي، والكاتب، والإعلامي، والمثقف، ورئيس تحرير صحيفة الوطن سابقاً، ومدير قناة العرب حالياً، والمقرب من العائلة المالكة، والقريب من دوائر صنع القرار في السعودية، أن يتوج معرفته بدراسة العلوم السياسية والعلاقات الدولية وأصول الجدل والمناظرات السياسية، فتلك علوم تدرس في الجامعات، وأن يبحث عنها في مضانها. وأن يخصص جزء من نشاطه الإعلامي نحو الشأن المحلي مهما كانت الضريبة التي سيدفعها لأجل ذلك. وأكبر دليل على ذلك تلك المقابلة المخجلة في برنامج ARENA على قناة الجزيرة باللغة الإنجليزية. ختاماً، مع كل الاختلاف والاحترام لكاتبنا القدير والشهير والنجم جمال خاشقجي نقول أمرين: (١) وجودك في الساحة بكل ما يظن فيك من تناقضات وسلبيات أو ما تشعر به أنت في داخلك، هو ظاهرة شفافة وصحية عن الحالة السعودية، وقد تكون الأفضل والأصدق في التعبير عنها؛ (٢) أن ركوب الموجة أو الموضة في سوق الإعلام بالحديث عن السياسة والعلاقات الدولية من دون عمق معرفي هو كمن يبحث عن شهرة بأي ثمن حتى ولو أضطر إلى المشي عارياً في الأسواق.
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2016/01/20