تحرير الغوطة في حسابات المتورّطين... كارثي، ومدمّر
د. وفيق إبراهيم
مشهد الاحتقان الدولي الخطير، المُنبعث من تحرير الجيش العربي السوري للغوطة الشرقية، يُثير مئات التساؤلات عن أسبابه الحقيقية.. فهل يعود إلى «إنسانية» الغرب والسعودية و«إسرائيل»، التي تتّهم السوريين باستعمال سلاح كيماوي مزعوم في مدينة دوما؟ أم أنّ هناك خلفيات أخرى؟
المنقّب في تاريخ دول الاتهام يرى أنها الأولى في استعمال سلاح إبادة جماعية أردت ملايين البشر في أميركا الهندية وأفريقيا واليابان وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط والسكان الأصليين في اوستراليا وكندا من دون نسيان المجازر اليهودية في فلسطين، ولبنان وسورية، والعثمانية في نصف سكان الأرض. وهناك من يقول إنّ جيشاً منتصراً كان على أبواب مدينة دوما ليس بحاجة إلى سلاح كيماوي.. بالإضافة إلى أنّ هذا الجيش لا يقتل أهله.
لماذا إذاً تكرار معزوفة الاتهام بالكيماوي ومحاولة استعمالها كذريعة لضربات عسكرية غربية يُراد منها إحداث تغييرات عميقة في الدولة السورية؟
أهميةُ تحرير الغوطة، أصابت الأميركيين بالسُّعار الحقيقي، لِما تجسّدُه من تقهقر سياسي لواشنطن واحتمالات وضع القوات الأميركية المنتشرة في جنوب سورية ومناطقها الشرقية، بشكل مباشر في مواجهة مكشوفة مع السوريين والروس وحزب الله.
وهذا ما يتحاشاه الأميركيون الذين بنوا استراتيجيتهم في سورية على أساس تفتيتها إلى كانتونات تستنزف طاقاتها التاريخية ودورها العربي والإقليمي.. وهذا ليس خدمة لحلفائها الإسرائيليين والسعوديين والأتراك فقط، بل للمصلحة الاستراتيجية والجيوبولتيكية للنفوذ الأميركي في العالم.. الذي لا يزال يعتبر أنّ الإمساك بالشرق الأوسط، موطن الطاقة والاستهلاك يتطلب تفتيت سورية وإضعاف العراق.. ومنع الروس من الاستمرار في صعودهم الجيوبولتيكي.
هذا ما دفع الأميركيين إلى صناعة مسرحية عالمية مفبركة تشبّه حملات الفرنجة على المشرق بذريعة استعادة «الصليب» قبل سبعة قرون ونيّف. إلا تماثل اتهامات الكيماوي المتظاهرة بالإنسانية والرحمة، مشاريع الغرب العسكرية الدموية بنشر الديموقراطية والحضارة ومكافحة الإرهاب في الشرق، أي تلك المشاريع التي أبادت مئات ملايين البشر في «الأميركيتين»، حيث أبيد أهلها الهنود إلى آسيا واليابان، وأفريقيا التي استرقّ الغرب شعوبها وبلاد العرب الذين قتلوا واستبيحت ثرواتهم وأستراليا وكندا.. فهؤلاء الذين يستعملون شعارات إنسانية هم المجرمون الحقيقيون وصفحات التاريخ شاهدة عليهم.
الكيماوي هو إذاً وسيلة الغرب لحركتين متوازيتين: إعادة اللحمة الداخلية بين بلدان أوروبا بعد تخلي بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، والاحتمالات التي تكهّنت بانسحابات أخرى قد تؤدي إلى انهياره.
أما الحركة الثانية فإعادة ربط أوروبا بشكل كامل بالسياسة الأميركية بسلبياتها المتراكمة. لذلك شكلت الغوطة الفرصة الملائمة لتحقيق هاتين الحركتين في آن معاً، لا سيما أنّ الطموحات تثير لعاب أصحاب التاريخ الاستعماري المختبئين خلف شعارات بقيم سامية، لا يطبّقونها إلا على قسم من شعوبهم أي الطبقات العليا.. والطموحات هي «غاز» الشرق و«النفط» وقدرة شعوبه على الاستهلاك، لأن أنظمتهم متخلفة ترفض التطوّر والعلم وبإشراف أميركي غربي.. ومثل هذا يوفر للحلف الأميركي الغربي.. اقتصاداً وهيمنة وطرداً للمنافسين من حلبتهم الاستراتيجية المشرقية..
فالغوطة إذاً هي آخر حدٍ مقبول قبل بدء الانهيار الغربي الكبير.. وبدا أنّ على الراعي الأميركي للغرب أنّ يتحرك بعنف لمنع تراكم خسائر ذات طابع دراماتيكي. فجرى افتعال حكاية الكيماوي التي تشبه أساطير العجائز المكرّرة مئات المرات. والمقصود منها المحافظة على أحادية أميركية تنهب العالم بمعونة الشقيق الأوروبي القانع بالحصول على الفتات المتساقط من معلمه الأميركي الأكبر.
والمرجّح هنا، أنّ كمين الغوطة الأميركي قد يشكّلُ فرصة أميركية لاستعراض القوة.. وهي وسيلة عنيفة لاستدراج الطرف الروسي إلى تفاهمات جديدة «حول سورية».. لا تكون مجرّد تفاهمات على منع الاصطدام العسكري بين البلدين جواً وبراً وبحراً.. بل تفاهمات سياسية على مشروع تقاسم يتيح للأميركيين «الاستقرار» في شرق الفرات من حدود سورية مع العراق وحتى حدودها مع تركيا بموازاة النهر.. وذلك بإنشاء كانتون بقوة كردية أساسية إلى جانب عشائر عربية مثقلة بالذهب السعودي ـ الإماراتي مع بعض الكلدان والآشوريين والسريان الحالمين بالحماية الأميركية. فتحققُ واشنطن بذلك مشروع تفتيت سورية إلى مناطق نفوذ ثلاث: روسي ـ سوري، وأميركي ـ كردي وتركي ـ عثماني.
لكن المشكلة هنا، تتعلّق بأن الروس أنفسهم لا يقبلون بهذا الحل الذي يسيء إلى بلد صديق هو الدولة السورية الحليفة، كما أنّ موسكو متأكدة من أنّ هذا الهدف الأميركي التدميري لبلد صديق وحليف يستهدف أيضاً حركة عودة روسيا إلى التفاعلات العالمية ويمنعها من المشاركة في نظام مرجعيات عالمي متعدّد.
وهناك طرفان أيضاً مستعدان للقتال العنيف ضد هذا المشروع الأميركي، وهما سورية أولاً التي تقاتل دولتها منذ سنين سبع ضد عشرات الدول الإقليمية والدولية والعربية التي حاولت تقسيمها.. وحاربت سورية إرهاباً كونياً مدعوماً من هذه القوى.. بدماء جيشها وأبنائها لمنع التفتيت. فكيف تقبل به اليوم وهي المنتصرة؟
وإيران بدورها ساندت حليفتها سورية لمنع تقسيمها فكيف تذعن الآن وهي المنتصرة على حصار غربي مستمر يطوقها منذ 1980 لجهة قوى الإقليم، فهناك «إسرائيل» المذعورة، التي كانت تترقب تدمير سورية للانتهاء من القضية الفلسطينية للأبد، لأنها تعرف أن مشروعية هذه القضية، تمرّ في الشام على مستويي التاريخ والعامل القومي وحركة التفاعلات والجغرافيا السياسية، كما أنّ تحالف «إسرائيل» مع بلدان الخليج يصبح أسهل مع سورية منهارة ومفتتة. وتنكشف هنا أسباب الغارة الإسرائيلية المفاجئة على مطار تي ـ فور التي تعكس إحباطاً إسرائيلياً من تحرير الغوطة.
السعودية بدورها، تعتبر تحرير الغوطة إنهاء لدورها السوري، لأن «جيش الإسلام» الإرهابي هو آخر قوة سورية ترعاها بعد انهيار حلفائها في داعش ومثيلاتها، وهذا يصيب آل سعود بإنهاك قاتل وخوف على عرشهم القرون أوسطي. يدفعهم إلى تأييد ضرب سورية بقنابل نووية، وليست كيماوية فقط.
والطريف أنّ الرئيس ترامب قال في تصريح مضحك له أمس، أنّ السعودية وقطر والإمارات «لم تعد تدعم الإرهاب».. وهذا يدل على أنها كانت قبل تصريحه تدعم الإرهاب الذي فتك بنصف مليون قتيل في سورية وأكثر منهم في العراق الذي تعرّض بدوره إلى مقتل مئات الآلاف من مدنيين بنيران القوات الأميركية التي غزت العراق في 2003 بذرائع عن أسلحة دمار شامل تبيّن لاحقاً أنها غير موجودة.
فمن يُعيد للعراق قتلاه بالرصاص الأميركي؟
على المستوى التركي، فإن تحرير الغوطة يؤدي إلى ازدياد قوة الدولة السورية وتفرّغها لمناطق محتلة أخرى، تأتي في طليعتها بالتساوي المناطق التي يحتلها الجيشان الأميركي والتركي. لذلك تتبنى أنقرة سياسات تدخل في إطار العجائب، فهي لا تريد تطوّر المشروع الكردي فتعادي ولي أمرها الأميركي وتتحالف مع الروس والإيرانيين من أجل ذلك.. ولا تقبل بنمو الدولة السورية لأنها تكشف ميولها العثمانية في شمال سورية والعراق. ولا تريد تفاهمات روسية ـ أميركية لأنها تعطّل رقصها على الحبال، وترفض في الوقت نفسه، خروج إيران من حالة الحصار الغربي المفروض عليها، لأن هذه الوضعية غير المريحة تعطّل حركة إيران الإقليمية، وبذلك يتبيّن مدى أهمية الغوطة في الصراع الدائر على سورية.. بدوائره الداخلية والعربية والإقليمية والدولية.. ومع تحريرها الكامل الذي تحقق باستعادة مدينة دوما، فإن مسرحية الكيماوي داخلة في طور التراجع في التأثير الدولي، وهذا لا يعني أنّ واشنطن لن تفتعل كيماوياً آخر بأشكال جديدة مع بدء حلقات تحرير شرق سورية وشمالها في الأشهر المقبلة.. والمطلوب فقط بدورها أنّ يقول لنا أحدهم: أين هي المعارضات السورية المفبركة؟
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/04/13