إجازة على رأس العمل!

مرفت بنت عبد العزيز العريمي
واقع بدأ يفرض نفسه في المجتمع العربي وأصبح جزءا من منظومة المؤسسات العامة على وجه الخصوص والخاصة على وجه العموم، وأعني بالإجازة على رأس العمل أن يُجبر الإنسان على عدم القيام بأي شيء نظرا لضعف سياسات إدارة رأس المال البشري، ويتحوَّل إلى طاقة بشرية مهدرة أنفقت عليه الدولة منذ ولادته أموالا طائلة لتعليمه وتدريبه وتأهيله، إنه نوع من الهدر للطاقات في عمر العطاء والإنتاج وهي متكدسة في مؤسساتنا أو منازلنا.
يتخذ الهدر أشكالا كثيرة منها؛ حالات الإقصاء للكفاءات المتخصصة لعدم وجود عمل يتناسب مع مؤهلاتهم لغياب خطط استثمار الموارد البشرية، وحالات أخرى تتمثل في التسرب والدوارن الوظيفي والاستقالات والتقاعد المبكر كنتيجة حتمية لعدم تحقق الرضا الوظيفي، ووجه آخر للإجازة على رأس العمل يتمثل في طاقات الشباب المهدرة كباحثين عن عمل بعد التخرج أو الغارقين في فنون التسلية والفراغ .
إجازة على رأس العمل حالة أخرى من حالات إفلاس الفكر الإداري، ونتيجة طبيعية من نتائج تعطيل العقل والحياد عن الابتكار في طرح حلول لمواجهة تحديات سوء التخطيط، الذي يَعد كل تفكير خارج عن الصندوق نوعا من (التابو) المحظور في نظر المجتمع.
هدر العقول ليس لأن المجتمعات قد حققت الاكتفاء الذاتي من الكفاءات والعلماء والباحثين والمواهب ؛ بل لأن البعض يعتقد أن ما تملكه الدول النفطية من ثروات يجعلها لا تحتاج إلى هدر عقل المواطن في التفكير بالإنتاج، والبناء طالما تستطيع الدول أن تستورد احتياجاتها من مواد وعقول وفكر، فبنت اقتصادا ريعيا ورعويا بديلا عن الاقتصاد المعرفي.
وهذا الأمر يتنافى تماما مع مساعي الدول في تحقيق التنمية والتقدم والرخاء لشعوبها، فالمباني الإسمنتية والطرقات المرصوفة والبنى التحتية الذكية ومراكز التسوق لن تحقق التنمية طالما أن غاية التنمية وهي (الإنسان) مازال تحت خط الإنسانية ومازال محروما من التفكير والتعبير بل مسلوب الوعي .
وما نراه اليوم من تراجع في الإنتاج الإنساني العربي هو نتيجة قرون من هدر الطاقات واحتوائها في قوالب لا تتلاءم مع الطبيعة الفطرية للإنسان، فقد توقفنا منذ قرون عن إنتاج العلوم والفكر الإنساني وأدى ذلك إلى أننا ما زلنا في مربع الدول النامية وقد تقدمت دول كانت يوما وحتى فترة قريبة دولا من العالم الثالث ونحن حتى اليوم ندور في فلك جلد الذات وصراع المصالح.
إن هدر الطاقة البشرية في (لا شيء)، له تبعات خطيرة على سلامة المجتمع وبقائه، لأن الإنسان مفطور على إفراغ الطاقة في مكان ما وفقَ منظومة قيمه وحاجاته ولا يمكننا الوثوق دوما بالجانب الخيِّر من الإنسان لأن غريزة الشر الأقوى في الطبيعة البشرية وبالتالي فإن لم تكن هناك سياسات لتوجيه الطاقة في البناء سنواجه مشروعات الهدم داخل المجتمع من النخب.
يقول الدكتور مصطفى حجازي في دراسة تحليلية نفسية بعنوان الإنسان المهدور إن المجتمعات قد تصاب بالركود وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية وتتحول إلى بيئات خصبة للأفكار المنغلقة نتيجة ثلاثية الهدر الأخطر في المجتمع البشري (هدر الفكر والطاقات والوعي) ونحن كمجتمعات عربية نعاني من أشكال الهدر كافة لذلك تنمو فيها أنواع مختلفة من الإرهاب الفكري.
وما يتحقق حولنا ينطبق تماما مع الأهداف الخفية للعولمة من هدر الانتماء الوطني والخصوصية المجتمعية لصالح نخبة من رأسماليين يمتلكون اقتصاد العالم تتحكم في طاقات الشعوب لمصاحها الخاصة لذلك تتجه المجتمعات إلى تسطيح العقل وتعطيله وتحوله من إنسان منتج إلى مستهلك للفكر والمال والوقت.
فعولمة الاقتصاد والأسواق المفتوحة ستحقق المزيد من هدر الطاقات وتُخلِّف الملايين من البطالة بين صفوف العرب لأسباب كثيرة من أهمها ضعف استراتجيات التعليم في مواكبة التطور العلمي ومؤشر البطالة دليل على أن استراتيجيات التعليم لم تبنَ على أساس مفهومَي طلب الرزق والتعليم من أجل الحياة.
إن أحد مؤشرات هدر الطاقات مسألة البطالة في العالم العربي والذي يعد معدلا عاليا مقارنة مع دول العالم حيث بلغ معدل البطالة في عام 2017
10,2% أي ضعف المعدل العالمي وأكثر الفئات تضررا هم الشباب والفتيات حيث بلغ معدل البطالة بين صفوف النساء ثلاثة أضعاف المعدل العالمي .
وكمجتمعات عربية نهدر الكثير من المال والوقت في استيراد الافكار والحلول المعلبة في حين نهدر طاقات وأفكار الباحثين والمواهب من أبناء المجتمع لأن أنظمة المؤسسات غير قابلة للتعامل مع الكفاءات والمواهب الإبداعية.
نحن أحوج إلى استثمار الطاقات في بناء مجتمعات معرفية منتجة فكسب مشروع التنمية لا يعتمد فقط على الموارد الطبيعية ولنا نماذج لدول نجحت في التنمية معتمدة على رأس المال البشري والاجتماعي.
وحتى نخرج من التبعية الاقتصادية عليان أولا استثمار الطاقات المهدرة في مشروعات التنمية والبناء من خلال إشراك الباحثين من حملة الماجستير والدكتوراه والمواهب من الباحثين عن عمل و المتقاعدين عبر عقود مقطوعة أو عمل إضافي وهذا سيعمل على تطوير مهاراتهم العملية وتعزيز انتمائهم الوطني.
إن إلزام مؤسسات البحث العلمي والجامعات والكليات العامة والخاصة إلى منح الأولوية لحملة الدكتوراه والمواهب النادرة للعمل كأكاديمين أو في الوظائف الفنية والتخصصية لأن طلاب المؤسسات التعليمية هم ثروتنا المستقبلية لذلك عليهم أن يحظوا على أفضل الكفاءات والمعلمين .
إن إنشاء مراكز بحثية متخصصة في المؤسسات تعمل على تقييم خطط المؤسسات ومتابعة تنفيذ استراتيجيات التنمية الوطنية والتطوير بالمؤسسات كونها جزءا من المجتمع ضرورة ملحة في عالم اليوم. حينها سنعزز روح الانتماء وسنخطو خطوات إلى اقتصاد مستقل.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/04/20