من الهيمنة المطلقة إلى القيادة من الخلف..المنطقة في ظلّ مخاض استراتيجيات الإمبراطورية!
د. نبيل نايلي
“إن سرّ عدم تناسق سياسة واشنطن تجاه سوريا هو أحد أعراض فشلها في تحديد دور جديد في المنطقة والعالم.” ستيفن أ كوك، Steven A. Cook.
حققت العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضد سوريا القليل من المكاسب التي رُوّج لها أمريكيا وغربيا. لقد كانت الرسالة التي كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يعتزمون إرسالها إلى النظام السوري ضعيفة للغاية لدرجة أن القادة في واشنطن وباريس ولندن كان عليهم -من الأفضل توفير الأموال التي أنفقت على وقود الطائرات وصواريخ الكروز حتى لا نحكي على من لا بواكي لهم من الضحايا والأبرياء. لعلّ المشهد بأكمله يعكس ما أدركه الكثيرون الآن: أنّ الرئيس الأمريكي لا يمتلك فعلا استراتيجية سورية.
إنها نقطة مركزية. لكن ذلك لا يفسّر لماذا كان الصراع السوري، يبدو وكأنه خارج قدرة المسؤولين والمحلّلين الأمريكيين، وعدم قدرتهم على إيجاد حل منذ اندلاع الأزمة. ذلك يتطلب فهما لجدل أوسع وغير محسوم بعد حول دور الولايات المتحدة في العالم.
تراوح الولايات المتحدة مكانها في الفترة التاريخية الفاصلة بين من 11 أبريل 1991 إلى 19 مارس 2003، والفترة لم تنبلج بعد. أما الحجة التي كثيرا ما يتعلّل بها المجتمع السياسي – على نطاق واسع ، بما في ذلك المسؤولون الأمريكيون، والمحلّلون في واشنطن وكتّاب الرأي ، والصحفيون – فتتمحور حول سوريا على مدى السنوات السبع الماضية هو أيضا ثم بشكل عام الجدل حول مصالح الولايات المتحدة والسياسة الخارجية التي وجب اعتمادها في حقبة جديدة غير معروفة أو مفهومة.
في لحظة تاريخية فارقة، لا يزال الأميركيون غير متأكدين مما يريدون ولا يعرفون ما هو المهم بالنسبة لهم، لكنهم ملزمون مع ذلك باتخاذ قرارات توافقية مع ذلك. ويبرر بعضهم سبب فشل الرئيسان الأمريكيان في معالجة النزاع السوري الذي خلف الكثير من المذابح والضحايا والدمار، وألحق العديد من الضرر بالمصالح الأمريكية طويلة الأمد في منطقة الشرق الأوسط. حتى أن بعضهم يذهب حدّ اعتبار أن الأمريكيين ما عادوا متأكدين إذا كانت تلك المصالح لا تزال ممكنة أو واقعية في ظل كلفة عالية ماديا وأخلاقيا وتنامي بروز قوى جديدة منافسة على دفة الريادة العالمية.
لقد أدّى تطوّر الصراع السوري من انتفاضة سلمية إلى حرب كونية ومستوى مذهل من التعقيد الذي يجعل المرء يصعب عليه التأكد من يحارب من. تحول يدفع السوريين ثمنه باهضا لا يمكن تصوره مع مقتل ما يقرب من نصف مليون شخص ونزوح حوالى 11 مليون، فضلا عن المصابين بصدمات نفسية.
تتراوح خطايا الغرب المتعددة من التفكير الرغائبي، فالا- مبالاة أو التورّط المباشر، إلى الغباء الاستراتيجي، أو مزيج من ذلك كلّه. وإلاّ كيف يخلص أشخاص على دراية جيدة بالملف في عام 2011 إلى أنها كانت “مجرّد مسألة وقت” قبل سقوط الرئيس السوري؟ وإلا لماذا قلّل الكثير من “الالتزام” الإيراني والروسي ومن مصالحهما؟ كيف راهن بعضهم على حفنة من المعاتيه ودُرّبوا وسُلّحوا وأُرسلوا إلى سوريا وعاثوا فيها تقتيلا وفسادا ثم قيل عنهم: “معتدلون”؟
هناك العديد من الأسئلة التي يمكن للمرء أن يطرحها عن الحصيلة الدامية للسنوات السبع الماضية، لكن لا فائدة من اجترارها مرة أخرى لأن بعضهم ومنذ 2012 دعا جهرة إلى تدخل أمريكي مباشر في الصراع السوري كوسيلة لوضع حد له والبعض الآخر ودّ البقاء بعيدا واشنطن وأجنداتها. ومع ذلك غاب عن الجميع أن واشنطن هناك منذ السفر الأول.
كانت ضربة 13 أبريل نموذجًا لهذه المعضلة. فقد كان دونالد ترامب حازمًا بخصوص غرض العملية ومبرّرها ، لكنه أعاد التأكيد أيضًا على قراره مغادرة سوريا “قريبًا جدًا” وتركها مجالا للممثلين الإقليميين.
هذا النوع من عدم التناقض لا تنفرد به سوريا فقط. فالمشكلة ذاتها نلاحظها في سياسة الولايات المتحدة في ما تعلق بليبيا واليمن والعراق وفلسطين وحتى إيران.
تحديد المصالح الوطنية مسألة في غاية الصعوبة. وحين يحاول المحلّلون، فإن تعاريفهم غالبا ما تميل إلى الانغماس في التفكير الدائر حول المعادلة التالية: “إذا كان بلد ما فعل X لتحقيق Y، فيجب أن يكون Y في مصلحته. كيف يعرف المرء أن Y في مصلحة البلد؟ لأنه فعل X. “
إلاّ أن التاريخ يمكن أن يساعد في حلّ هذه المعضلة. إذا كان على المرء أن يستطلع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن مصالح الولايات المتحدة تصبح واضحة من خلال أفعالها والموارد والتضحيات.
تطفو على السطح قائمة مختصرة: التدفّق الحرّ للنفط من الخليج، حماية أمن الكيان، وضمان ألاّ توجد دولة أخرى غير الولايات المتحدة تهيمن على الشرق الأوسط، ومنع انتشار الأسلحة النووية وأخيرا ما تسمّيه واشنطن مكافحة الإرهاب. وقد تُرجم ذلك إلى سياسات واستراتيجيات مثل مواجهة تأثير الاتحاد السوفييتي، واحتواء إيران والعراق في السابق، واحتضان المملكة العربية السعودية، والحفاظ على التفوق العسكري النوعي للكيان. هكذا كان نهج الولايات المتحدة التقليدي المعتمد من الحزبين في الشرق الأوسط.
على الرغم من أن هذه السياسات قد هيمنت على الولايات المتحدة على التفكير الاستراتيجي لدى منظري السياسة في الشرق الأوسط خلال معظم العقود السبعة الأخيرة، إلاّ أنها لم تعد تبدو ممكنة أو صالحة في ظل المعطيات الجديدة . تظل مكافحة الإرهاب قضية مثيرة للإهتمام، ولكن الآن بعد أن أصبحت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم، فإن الالتزام بالمملكة العربية السعودية والخليج العربي ربما لم يعد ملائماً أو جديراً!
بالإضافة إلى ذلك، لا تستطيع الدول العربية الغنية أن تشتري أسلحة “جميلة وذكية” ، كما يوصّفها ترامب نفسه، أو أن تحرص أمنها؟ لا يزال الكيان يحظى بشعبية كبيرة بين الأميركيين ولكن مع مرور الوقت أصبح “قضية حزبية”، مما يثير تساؤلات حول أهمية أمنه ووجوده. ويبدو أن الأميركيين وقادتهم لم يعودوا راغبين في تحمل عبء كونهم القوة المسيطرة في الشرق الأوسط-لا أخلاقيا ولا ماديا!
هنا لا مكان للصراع السوري- السوري!، فالأمر يتعلق بإعادة بروز روسيا كقوة في الشرق الأوسط وبالنفوذ الإيراني والتركي في المنطقة (على الرغم من أن طموحات موسكو أوسع من تطلعات كليهما، هل التي تهدف إلى إضعاف الغرب). إنه المكان الذي يستهدف جميع المصالح الأمريكية. ومع ذلك فإن الدافع من هدف إدارات باراك أوباما وترامب، فضلاً عن أعداد كبيرة من الأمريكيين، هو البقاء خارج الصراع وإدارته ..القيادة من الخلف!!. ربما يكون العراق مصدر إرهاق، لكن التخبط في العراق هو نتيجة نفس المشكلة: فالأمريكيون لا يستطيعون الإجابة عما إذا كان “استثمارهم” في الخراب يستحق كلّ ذلك! ليس من المستغرب والحالة كم هي عليه أنه خلال السنوات الثلاث أو الأربع الماضية، سعى الحلفاء الإقليميون إلى تحقيق مصالحهم الخاصة بغض النظر عما كانت واشنطن تعتقد أنه العمل الأصوب!
وعليه فالمصالح “التقليدية” للولايات المتحدة لم تعد مهمة وتستحق كل التضحيات المرتبطة بحمايتها – وهذا يعني أنها ربما لم تعد في الواقع مصالح الولايات المتحدة. أمريكا أوّلا أو ضمان استمرار أن تبقى “عظيمة” بعض ترجمة لذلك. ربما تظلّ هذه “المصالح” صالحة، لكن أغلب الأمريكيين لم يعودوا يعتقدون أن السياسات المستخدمة على مدى السنوات السبعين الماضية لتحقيقها ملائمة. هل هناك طريقة مختلفة لضمان إمدادات النفط – ربما من خلال تقطيع أطراف والتلويح بفزاعة أمنه ! طريقة أخرى لدعم الكيان دون قبول أو السماح بسياسات تتعارض مع أهداف واشنطن الخاصة على سبيل المثال، تقديم خطة سلام أمريكية كما تفعل؟ وهل هناك طريقة للسيطرة في الشرق الأوسط دون عسكرة سياسة واشنطن؟
هناك إجابات عسيرة على هذه الأسئلة، مؤكد، ولكن لأنها صعبة، فقد تجنبها المعنيون بذلك. ولا يزال المسؤولون الأمريكيون ومجتمع السياسات يتصارعون حول نفس السؤال الخاص بسوريا.. النتيجة المؤلمة، في هذه الأثناء ، هي ما نراه في سوريا اليوم!!!
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/04/26