موت «الاتّفاق»
عامر محسن
«اليوم هو تذكيرٌ صاعق لكلّ العالم: الاتفاقات من الممكن الرجوع عنها وأن يكون لها تاريخ انتهاء صلاحية، فيما الأسلحة النووية تمثّل بوليصة تأمينٍ على مدى الحياة».
استاذ العلوم السياسية في جامعة «ام آي تي» فيبين نارانغ، معلّقاً على انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي
من الطّريف أنّه خلال أبرام «الاتفاق النووي» مع إيران عام 2015، أصرّت إدارة أوباما على إدراج ضمانات وآليّات في حال قرّرت إيران الانسحاب من الاتّفاق وبنوده (كآلية إعادة الفرض الفوري للعقوبات)، ولكنّ لا أحد فكّر بما سيحصل لو أنّ أمريكا أو حلفاءها هم الذين ارتدّوا عن التزاماتهم. الاتفاق النووي (كأكثر المعاهدات في العصر الحديث) ليس عقداً تجارياً فيه شروط جزائيّة، بل إنّ الثقة به تتأتى فحسب من «كلمة» البلد وتوقيعه، وضمانة القانون الدولي والأمم المتّحدة. بعد اليوم، ومع أمريكا تحديداً، لا أحد سيكرّر هذا الخطأ في المستقبل.
حتّى لا يستعجل البعض ويفترض أنّ ما جرى أمس هو إعلان حرب، فإن دونالد ترامب، للحقيقة، قد قال أموراً كثيرةً، يمكن للسامع بأن يحتفظ منها بما يشاء، ولكنّها لا تشير إلى خطّةٍ واضحة: هو قال بأنّ المشكلة الجوهرية مع إيران هي السلاح النووي، وهو لذلك سيلغي الاتفاق الذي يمنع تطوير البرنامج النووي الإيراني؛ وأيضاً أنّ المشكلة هي الصواريخ البالستية والسياسة الإقليمية، وأنّ تغيير النّظام في إيران حتميّ وإجباريّ، ثمّ دعا النظام إلى التفاوض معه من جديد، مشيراً إلى أنّ طهران، إن جنحت إلى السّلم وتعاونت في ملفات المنطقة، فإنّ مرحلةً من السلام والازدهار تنتظر الجميع.
إسرائيل تريد بالطّبع حرباً مع إيران، هذا معروف وهناك حسابٌ عقلاني واضح يحثّ الصهاينة على الدّفع إلى الحرب، وهي لا تتعلّق بالسلاح النووي حصراً. كما أسلفنا في الماضي، فإنّ النّظريّة هي أنّ ضرب إيران أو إخضاعها عسكرياً يصبح طرحاً أكثر صعوبةٍ بمراحل كلّ خمس سنوات. بمعنى أنّ حرباً مع إيران عام 2005، بعيد اجتياح العراق، كانت ستكون مكلفة من دون شكّ، ولكنّها أصبحت أصعب بما لا يُقاس عام 2010، حين عدلت إدارة اوباما عن الحلّ العسكري لتعقيداته الكثيرة. وحربٌ عام 2010 كانت ستمرّ بشكلٍ أسهل من حربٍ ضدّ المحور الإيراني عام 2014، حين نبتت حركات مسلّحة ضخمة على طول الإقليم ولم يعد في وسع واشنطن ــــ على طريقة حرب العراق ــــ أن تستفرد ببلدٍ على حدة وتعزله وتضربه. وبعد سنواتٍ من اليوم، قد لا تعود الحرب على إيران مقبولة الكلفة وممكنةً بالنسبة إلى أمريكا وحلفائها في الإقليم، وستجد إسرائيل نفسها وجهاً لوجه أمام التهديد الوحيد المتبقّي ضدّها وهو يتوسّع من دون رادع. هذا كلّه مفهومٌ، ولكنّ المشكلة هي أنّ الصهاينة لا يريدون خوض هذه الحرب بمفردهم، بل همّهم توكيلها إلى أمريكا، وهناك مسافةٌ كبيرة بين أن يمزّق ترامب الاتفاق النووي وبين أن يرسل جيشه وجنوده إلى الشّرق الأوسط ويفتتح حملةً جديدة لا يُعرف مداها.
بل إنّ الدبلوماسيين الأوروبيين يمنّون النّفس، منذ تأكّد أنّ ترامب سينسحب من المعاهدة، بأن تظلّ الأمور على ما هي عليه، وأن تحافظ إيران على سيرها بالاتفاق مقابل التزام الأوروبيين وباقي الموقعين على المعاهدة بعدم التخلي عنها. هذا مستحيلٌ بالطّبع، وإن حاولت الدبلوماسية الإيرانية ــــ في البداية ــــ أن تستفيد من موقع «الضحيّة» وتستخدم خطاباً تصالحياً وتستخلص التزاماتٍ تجارية من الأوروبيين وتخلق مسافةً بينهم وبين السياسة الأمريكية ضد إيران. المسألة هي أنّ رفع العقوبات الذي كان يفترض بالاتفاق النووي أن يجلبه على إيران لم يحدث أصلاً، والقطاعات التي تهمّ، مثل المصارف والتأمين والاستثمارات الخارجيّة، ظلّت تستنكف التعامل مع إيران، خشية الوقوع تحت رقابة الخزانة الأمريكية وعقوباتها. من يتعامل تجارياً مع إيران في الصين هي شركات ومصارف صغيرة لا تحتاج إلى نظام الدولار أو هي مستعدّة لأن تحرم منه، والتجارة مع تركيا والهند وروسيا تجري أصلاً عبر اتفاقات تبادلٍ للعملات وحسابات خاصة بين المصارف المركزيّة. القرار الأمريكي جاء ليؤكّد استمرار هذه الحرب الاقتصاديّة على إيران، وأيّ ضماناتٍ تقدّمها الدول الأوروبية، على أيّ حالٍ، لن يكون لها قيمة لأنّ شركاتها (من تلقاء نفسها) ستتجنّب مخالفة القوانين الأمريكية وهي بدأت بالفعل بالطلب من عملائها ايقاف اية عقودٍ جديدةٍ مع إيران. بكلمات أخرى، ما يعرضه الأوروبيون هنا هو استمرار نظام العقوبات والضغط الاقتصادي، مع استمرار إيران بتجميد برنامجها النووي، ومن دون ضمانةٍ بأن لا تكون الحرب و«تغيير النظام» هي ما ينتظرها في نهاية الطّريق وهذه، بأي مقياس، ليست صفقة جيّدة.
نظرية مؤامرة
يقدّر العديد من الخبراء النفطيين بأنّ تأثير العقوبات الأمريكية على الشقّ الأهم، وهو بيع النفط الإيراني، قد لا يكون كاسحاً أو بحجم انخفاض الصادرات عام 2012، حين انضمّ الاتحاد الاوروبي الى نظام العقوبات والحظر المصرفي والنفطي. يقول خبيرٌ لوكالة «بلومبرغ» إنّ إيران قد لا تخسر هذه المرّة (مع استمرار الصين والهند واليابان بشراء نفطها) أكثر من ثلث مليون برميل يومياً، مقابل أكثر من مليون إلى مليون ونصف برميل نقصت من إنتاج إيران في الفترة الماضية. إلّا أن هذا كلّه يستند إلى الموقف الصينيّ. منذ أسابيعٍ نقل لي أحد الأصدقاء، وهو يعمل في مؤسسة مالية دوليّة، أنّ مصدراً صينياً «قريبا إلى الحكومة» أخبرهم عن اتّفاقٍ غير معلن بين واشنطن وبيجينغ حول كوريا وإيران معاً. الفكرة هي أنّ كوريا الشمالية ستوافق على الدخول في مفاوضاتٍ لنزع السلاح النووي، والصين ستأخذها بالمقابل «تحت جناحها» وتضمن أن لا يتمّ عزلها أو ضربها، ويتم إيقاف «الحرب التجارية بين البلدين». في المقابل، لا تقوم الصين بمساعدة إيران على تصريف نفطها حين يعيد ترامب فرض العقوبات. لا وسيلة للتيقّن من خبرٍ كهذا، ولكنّ فيه منطقاً مثيراً: الصّين لها مصلحة في عدم انتشار الأسلحة النووية في محيطها، وأن لا تحوزها كوريا الجنوبية واليابان (أو، وهذا اسوأ، تايوان)، وتظلّ الصين القوة النووية الوحيدة في شرق آسيا. أمّا بالنسبة إلى ترامب، فإنّ خوض حربٍ على الجبهات الثلاث في آن (الصين، روسيا، ايران) هو صعبٌ، والانسحاب على كلّ هذه الجبهات هو أيضاً مكلفٌ، وقد يكون من المنطقي للإدارة الأمريكية أن تركّز على مواجهاتٍ «في وسعها الفوز بها»، مثل روسيا وإيران، وتحيّد الخصم الأكبر (الصّين، من جهتها، قد تفكّر أنّ في صالحها أن تغرق أمركا في غرب أوراسيا لعشر سنواتٍ قادمة، فيما الصين تواصل نموّها وتحصّن موقعها الإقليمي بحيث يصعب عزلها أو حصارها).
هناك، من جهةٍ أخرى، عوامل تعارض هذا الاحتمال. الصّين، أساساً، لا تساعد دولاً مثل إيران وسوريا وفنزويلا لأسبابٍ ايديولوجية أو لأنّ هناك بين كلّ من هو خارج المظلة الأمريكية، كما يتصوّر بعض التفكير الرغبوي، تحالفٌ ووحدة حال (هذا، للأسف، لم يكن موجوداً حتّى أيّام الحرب الباردة، حين كان هناك «معسكرٌ اشتراكي» يشترك ــــ اسميّاً ــــ في الايديولوجيا والأهداف). المسألة تتعلّق بالمصالح والتهديدات، ببساطة. الصين، مثلاً، تفهم منذ التسعينيات بأنّه حين تنطفئ بؤر المقاومة و«الإزعاج» للإمبراطورية الأمريكية، مثل كوبا وإيران وغيرها، فإنّها ستظلّ وحدها في دائرة الاستهداف، وستواجهها أمريكا وخلفها، هذه المرّة، «المجتمع الدولي» بأكمله ومؤسساته وقوانينه. ستطالبها يوماً بتحرير الـ«يوان»، ويوماً بتحرير القطاع المصرفي، تحت بند حريّة التجارة، وستتمكّن من ابتزازها بالعقوبات والعزل، وتجبر الصين على أن تندمج في النظام العالمي وفق الشروط الأمريكيّة، وليس بشكلٍ سياديّ تقرّره بيجينغ، واللعبة بأكملها تدور حول هذه النّقطة.
هذا الحساب لم يتغيّر، ومن جهةٍ أخرى، كما كتب الخبيران الأمريكيان فيبين نارانغ وكولِن كاهل في «واشنطن بوست» قبل أيّام، فإنّ هناك مسافةً كبيرة بين أن تدخل كوريا الشمالية في مفاوضات حول نزع السلاح وبين أن تقوم فعلاً بتفكيك ترسانتها النووية وتسليم قنابلها. يشرح الكاتبان (كولِن كاهل، وهو اليوم في ستانفورد، كان من ضمن فريق اوباما الذي صمّم الاتّفاق النووي وهو اليوم يدبّج مقالاتٍ غاضبة، مثل سوزان رايس في «نيويورك تايمز» البارحة، وباقي الفريق الذي يراقب أهمّ إنجازٍ في حياته وهو يوطأ بالمناسِم) أنّ ترامب ينطلق من تأويلٍ خاطئٍ للملفّ الكوري. هو قد يظنّ بأنّ الكوريّين قد وافقوا على إيقاف التجارب النووية وفتح باب المفاوضات خوفاً من تهديداته وتلويحه بالحرب فيما القصّة مختلفة من وجهة نظر الكوريين. ما جرى، بحسب نارانغ وكاهل، هو أنّ كيم جونغ أون قد أعلن في نوفمبر الماضي بأنّ الردع النووي الكوري «قد اكتمل» ببساطة، ولم تعد هناك حاجةٌ إلى تجارب نووية جديدة. ويضيف الكاتبان بأنّ «نزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية»، وهو عنوان المفاوضات القادمة وكلّ مفاوضات جرت في الماضي، من المستبعد أن يصل الى سحب قنابل كوريا الشمالية في وقتٍ قريب (خاصّة بعد أن شهد الكوريون مصير «الصفقات» المشابهة مع ليبيا وإيران، وكوريا ذاتها، في الماضي)؛ وقد يفسّر الكوريون هذا البند، حين يصل الكلام إلى الأمور العمليّة، على أنّه يتضمّن نزع السلاح النووي من أمريكا مثلاً.
الحرب بوجهيها
المفارقة هي أنّ أكثر «أعداء إيران» في المنطقة قد أبهجهم قرار ترامب، وهم يعتبرون أن تمزيق الاتفاق وقرع طبول الحرب هو أمرٌ جيّد، وأنا أرى الأمر نفسه. الفارق بيننا هو أنّهم يعتبرون أنّ البديل عن «الحرب»، أي سياسة اوباما، هي «السّلم» والتّعايش مع إيران و«التساهل» معها وتجنّب مواجهتها، وأنا أرى أن المنهجين، اوباما وترامب، يوصلان إلى الهدف ذاته (إخضاع الخصوم وتدمير دولهم وفرض سيطرة أمريكا وإسرائيل على المنطقة وشعوبها)، وأسلوب اوباما أفعل وأخطر. الحرب، وإن كانت صعبةً ومكلفةً ومؤلمة، لا تسير غالباً كما يريدها المعتدي: برامج الصواريخ في إيران، والتنظيم العسكري و«فيلق القدس»، هي من نتائج حرب العراق والتحدّي الحربي الذي وجدت الثورة نفسها أمامه في أيامها الأولى. حرب لبنان أنتجت «حزب الله». غزو العراق عام 2003، ونظرية «محور الشرّ»، هي ما دفع بالسلطات الإيرانية إلى تكثيف برامج التسليح والبحث عن حلفاء مقاتلين في الإقليم. وحرب سوريا و«تنظيم الدولة» خلقا في المنطقة جيوشاً جديدة. ولولا هذه التجارب وتهديد الحرب المستمرّ، لكانت الكثير من النّخب الإيرانية (والشعب) تفضّل إنفاق مواردها على مجالاتٍ تختلف بالكامل عن بناء الصواريخ وتدريب المقاتلين.
الخطر الحقيقي، لبلادٍ مستهدفة كبلادنا، هو ليس الحرب والمواجهة، فهي قائمة ومستمرّة في كلّ الأحوال، بل إنّ الخطر والضرر الأكبر هو في توهّم أنّ الحرب من الممكن تجنّبها، وأنّ الحرب القائمة يمكن أن تكون الأخيرة، وأن «تنأى بنفسك» عن ما يجري في المنطقة من حولك على أمل أن لا يصل الدّور اليك. الخطر الحقيقي هو في وهم «التقارب»، والسعي إلى نيل رضا الغرب واستثماراته، وشراء السلام عبر التنازلات حتى تنسى كيف تخوض الحرب. التهديد الحقيقي هو في «سلامٍ سيءٍ» يشرف عليه البنك الدولي، وتجذّر الفساد والاستهلاك وصعود الطبقات الطفيليّة. الخبير الأمريكي ولي نصر، وهو من فريق اوباما الذي كان يعتنق نظرية «تغيير النظام باللّين»، علّق على قرار ترامب متفجّعاً بأنّه ــــ بضربةٍ واحدة ــــ قد دمّر كلّ الجهود والمساعي لبناء كتلةٍ ليبرالية متصالحة مع الغرب في إيران، وقدّم إلى «المتشددين» هديّةً لم يكونوا ليحلموا بها.
بالفعل، مهما كانت نتائج النكوص الأمريكي عن الاتّفاق، فإنّ ما فعله ترامب ليلة الثلاثاء قد حسم، مرّةً وإلى الأبد، النقاش الداخلي في إيران حول مستقبل البلد وسياسته الخارجيّة والعلاقة مع أمريكا، والاقتصاد والعلاقة مع النظام المالي الدولي، وذلك كلّه من دون نقاشٍ أو انتخابات أو تغييرٍ داخلي. المقصد هنا هو أنّه، في الواقع، فإنّ المواجهة (مثل العقوبات والحرب الاقتصادية) لم تتوقّف يوماً في كلّ الأحوال، وما يحكم هو ميزان القوى وكلفة الحرب على الغزاة، وليس المعاهدات والقانون الدّولي. ولأنّ العالم تسيّره هذه القواعد، فقد يكون خيراً لك أن تواجه شطحات ترامب من أن تسير خلف وعود اوباما، وأن لا يكون «مفاوضك الرئيسي» مع الغرب هو محمّد جواد ظريف، بل قاسم سليماني.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/05/10