إلى كل العالم: الدم الفلسطيني يحاصركم
حسن خليل
تقول الأسطورة اليونانية القديمة إنّ ثمة صندوقاً فيه جرّة تحوي في داخلها كل أصناف الشر، من جشع، وغرور، وافتراء، وكذب وحسد، ووهن... تُسمى «الباندورا»... متى فُتحت تلك الجرة أو كُسرت سادت تلك الشرور وعمّت كل العالم.
إن من ذكَّرنا بتلك الأسطورة كان الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الذي تمنى على نظيره الأميركي دونالد ترامب عدم فتح صندوق «الباندورا» في العالم، وذلك على خلفية إلغائه الاتفاق النووي مع إيران. لكن، قبل شكر الرئيس الفرنسي على هذه الدعوة «الأخلاقية»، قد يتبادر إلى ذهن أي مستمع أو قارئ لذلك التصريح أن يسأل: ألم يُفتح ذلك الصندوق بعد؟ ألم تُكسر تلك الجرة وخرجت منها كل الويلات؟ السؤالان الاستفهاميان هنا ليسا موجهين إلى ترامب، بل إلى ماكرون نفسه، «الرئيس الشاب» للجمهورية الفرنسية.
السيد الرئيس ماكرون: لقد كُسرت تلك الجرة منذ مئة عام، وأنتم بالذات من بادر إلى كسرها، منذ اتفاقية سايكس – بيكو المشؤومة التي كان جورج بيكو، الدبلوماسي الفرنسي أحد قطْبَيها مع نظيره البريطاني مارك سايكس. أنتم من بدأ بإخراج الويلات والاعتداءات وانتهاك القانون الدولي، عندما قسّمتم البلاد العربية إلى محميات لكم، تتقاسمونها كمستعمرات وإن بتوصيف «متحضّر»، أنتم وشريككم من شرّعتم تنفيذ ذلك الوعد المشؤوم لبلفور باصطناع كيان هجين في قلب البلاد العربية. من هنا بدأت المشكلة، ومن هنا بدأت جلجلة الآلام للشعب العربي الفلسطيني.
لقد تسلّمت الإمبريالية الأميركية الراية منكم بعد الحرب العالمية الثانية، وجعلت من ذلك الكيان موقعاً متقدماً في مشروعها التوسعي، على حساب شعب فلسطين والشعوب العربية، وعدتم أنتم إلى الخطوط الخلفية، وعبثاً تحاولون إيجاد أدوار رئيسة في هذا «الفيلم الأميركي الطويل»، فاكتفيتم بدور «الكومبارس» الذي تُسند إليه أدوارٌ، قد لا تليق بالممثل الأصلي. لقد فُتح ذلك الصندوق وكُسرت جرته يوم أرسلتم السلاح إلى ذلك الغاصب، وهو يقوم بالمجازر وسياسات الأرض المحروقة للمدن والقرى الفلسطينية، قاضياً على كل حيٍّ فيها، سواء أكان حجراً أم شجراً أم بشراً... أنتم من زودتموه بالطائرات والسفن الحربية والتكنولوجيا، وعلى ذلك، ازداد ذلك الكيان قوة وغيّاً وتوسعاً على حساب بلدان المنطقة وشعوبها.
واليوم، ونحن نطوي المئوية الأولى لوعد بلفور، ونبلغ السنة السبعين لقيام الكيان الغاصب، ها هو الشعب الفلسطيني وحيداً يواجه، كل تلك المدة، بصدور أبنائه العارية وإرادة المقاومة التي تُوَرَّثُ جيلاً عن جيل، وقد أنهكه الانقسام بين سلطة وهمية دأبت على التنازلات؛ فلقد أعطت للاحتلال أكثر ممّا يتوقع واستعدت نصف شعبها، ومقاومة عينها على سلطة موهومة وقعت في فخها فكرّست الانقسام وحولت جزءاً من الجهد للصراع الداخلي ولإرضاء الدول. وأنظمةٌ عربيةٌ تهرول إلى التطبيع بالسر والعلن، لا تستحي من قولٍ أو فعلٍ، تقيم الزيارات والمآدب وتدفع الأموال لأصحاب النفوذ والأمر. وها هي دولة الإرهاب الأولى في العالم، الولايات المتحدة الأميركية، التي ما برحت تدعم كل لص وأفّاق وتاجر وإرهابي، تنهب الشعوب وتقتلها، تعربد دون رادع أو وازع، وتنقل سفارتها إلى القدس، ضاربة عُرض الحائط بكل المواثيق الدولية الناظمة لحقوق الدول والشعوب، وها هو «العالم الحر»، حارس حقوق الإنسان يبلع لسانه ويظهر عجزه كالعادة، لا بل يتواطأ مع القاتل ويحاسب الضحية، وهذا هو ديدنه منذ أن وجد، وها هي المؤسسات الدولية المعنية بصيانة السلم الدولي، الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، تُصدر القرارات كرفع عتب وواجب، لا بل أحياناً كثيرة نراها صماء بكماء أمام جرائم العدو الصهيوني، تشرّع تدمير العراق وأفغانستان ويوغوسلافيا وسوريا...، وتصاب بالعمى والعجز أمام مأساة الشعب الفلسطيني وعدوان إسرائيل وجبروتها.
لم يبقَ لكم إلّا أنتم وقلة من أحرار هذا العالم تقف إلى جانب قضيتكم
فيا أبناء فلسطين: لا تنتظروا المدد من أحد، فقد ماتت النخوة وشُيِّعت منذ زمن بعيد. لم يبقَ لكم إلّا أنتم وقلة من أحرار هذا العالم تقف إلى جانب عدالة قضيتكم، وللأسف، أكثريتهم ممن لا يرطن باللغة العربية. لقد دفعتم، على درب الأعوام السبعين وأيضاً قبلها، أثماناً غاليةً جداً، ولا تزالون؛ مئات الشهداء والجرحى سقطوا بالأمس على حدود غزة وهم يواجهون بصدورهم آلة القتل الصهيونية، دماؤهم تحاصر القتلة: من أطلق النار ومن زودهم بها ومن يدفع ثمنها ومن يفتتح سفارة، ومن يصمت ومن يتواطأ ومن يحرّض... ضريبة جديدة يدفعها الشعب الفلسطيني على طريق العودة، وجريمة جديدة تضاف إلى لائحة الحساب مع دول العدوان. ومع ذلك، ها هو أخضر فلسطين يزداد اخضراراً ونضارةً، وابنكم المصلوب على خشبة، لا يتسع فضاءٌ لأنينه المستمر منذ ألفيتين من الزمن، وما زال، على وعد الخلاص، صابراً محتسباً، وعيونٌ، تصل الليل بالنهار على حدود النار، تراقب وتقنص وتأسر وتواجه وتقاوم، رصاصها قليل ولكن يصيب، ومفاتيحُ العودة المتوارثة من جدٍّ إلى ابنٍ إلى حفيد... ستبقى «صك عودة» أكيدةً إلى دور الحنين في كل فلسطين. الخيارات ليست كثيرة، العدو من أمامكم ومن ورائكم فما عليكم إلّا المقاومة.
وإلى قوى المقاومة في المنطقة: إن كان لا بدّ من قضية لكي نقاوم من أجلها، فها هي، منذ قرن من الزمن باديةً أمامنا. لقد تدحرجت كرة المقاومة ضد كل احتلال منذ زمن بعيد: هنا الجزائر، هنا بيروت، هنا بغداد، هنا القاهرة، هنا دمشق، هنا هانوي، هنا هافانا، هنا بريتوريا... هي عواصم حملت الخيار ومارسته قولاً وفعلاً. هي بلاد على اتساع الكرة الأرضية، تلفّ خطوط طولها وعرضها بحركات تحرر، أغرقت القرن العشرين بالثورة والثوار. هي عواصم لها ثوراتها الخاصة، لكن القدس وعلم فلسطين ما غابا عنها أبداً. هي بلاد شاسعة واسعة، قوافل الشهداء جابت مدنها وقراها وأحياءها تزفّ أبناءها، وتهتف بحناجر المقاومين وقبضاتهم... هي مسيرة المناضلين المنتصرين لفلسطين، ودرب نضالهم لاستعادة حق مسلوب عنوة من شعب، هو الوحيد في هذا العالم أرضه مغتصبة، وهو منتشر في بلاد الشتات ومخيماتها. مئة عام تكفي لكي نقول إنّ ثمة ظلماً تحت هذه السماء اللامتناهية يجب وقفه...
القضية إذن واضحة كما الحافز، كما الإرادة. ألم يحن بعد أوان الفعل والقول؟ فطريق الحق هي طريق فلسطين، ألم يأت الوقت للقول إنّ رفع الظلم لن يكون إلّا بطرد المحتل من حيث أتى؟ أجيالٌ كثيرةٌ وُلدت على ذلك الحلم وقضت دونه، وأجيالٌ لا تزال تأمل أن تتابع، وأجيالٌ مفترضةٌ ستأتي لتكمل دائرة الدم والدموع والنضال إلى حدّ الشهادة المؤكدة. فإذا حان الوقت فلماذا ننتظر؟ هي قضية واحدة ومقاومات متعددة، لا بأس، فلنتوحد حول تلك القضية ولو بمقاومات مختلفة، خيارٌ لا يمنع التنسيق والتعاون، إذا كانت النيّات صادقة، فالعدو واحد ومشترك.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/05/30