صفقة القرن والجغرافيا السياسية المستحدثة!
حسن مليحات
لقد شكلت اتفاقيات أوسلو التي وقعت في 13/أيلول/1993 تحولا نوعيا في التجربة السياسية الفلسطينية عبر صياغة النظام السياسي من جديد في الضفة الغربية وقطاع غزة وتم تجسيد ذلك من خلال إنشاء السلطة الفلسطينية في ربيع العام 1994 ، لتصبح حركة فتح حزب السلطة بعد إن كانت منذ عام 1969 حزب الثورة خارج فلسطين ، الأمر الذي أدى بدوره إلى كسر قاعدة التمثيل السياسي الشامل الذي تمتعت به منظمة التحرير الفلسطينية حيث اعتبرت منذ عام 1974 الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات ، وفي مقابل ذلك اعتبرت السلطة الفلسطينية أحد أهم معالم اتفاقات أوسلو التي رفضتها حركة حماس وقوى فلسطينية أخرى فضلا عن كونها سلطة ناجزة في الضفة وقطاع غزة،من الثابت أن الشعب الفلسطيني عانى منذ عام منذ عام 2007 من تداعيات الانقسام الحاد بين القوى والفصائل المختلفة وبشكل خاص بين حركتي فتح وحماس ، وعلى رغم الحديث المتكرر عن إنهاء حالة الانقسام المريب بيد أن المتابع بات على يقين من وجود معوقات أساسية تحول دون ترسيخ مصالحة حقيقية ومن بين تلك المعوقات الضغوطات الخارجية من جهة وغياب القوة الصامتة عن توقيع الاتفاق وبالتالي الشراكة السياسية ومحاولة أصحاب المصالح والامتيازات التي تولدت بفعل حالة الانقسام الإبقاء على الجغرافيا السياسية المستحدثة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة فضلا عن المصالح الضيقة التي فرضتها التحولات في المشهد العربي وانسداد أفق المفاوضات مع إسرائيل
في خضم هذه الأحداث والتطورات السياسية وإزاء حالة التخبط السياسي تأتي زيارة مسؤول ملف السلام في الإدارة الأمريكية جاريد كوشنير وجيسون جرنبيلات إلى العاصمة الأردنية عمان في مستهل جولة مكوكية في الشرق الأوسط لبحث الصيغة النهائية لخطة السلام الأمريكية المعروفة باسم (صفقة القرن) والتي اعد لها وجهز لها صهر الرئيس الأمريكي جاريد كوشنير الذي التقى العاهل الأردني على عكس رغبة الرئيس محمود عباس الذي يرفض صفقة القرن بصيغتها الحالية، وقد أكد الملك أثناء لقائه كوشنير أن للولايات المتحدة دور مهم في إتمام خيار السلام بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وقد كانت قضايا الشرق الأوسط مدار بحث بين الطرفين وخاصة الوضع المتردي في قطاع غزة، لقد جاءت الزيارة في الوقت التي تضع فيه واشنطن اللمسات الأخيرة على صفقة القرن التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وفي ظل رمادية المشهد السياسي الفلسطيني واستمرار حالة الانقسام على الأرض وشيوع حالة من البؤس السياسي وعدم وجود إرادة سياسية حقيقية للنهوض بالوضع السياسي الفلسطيني لكي يرقى لمواجهة المؤامرة الجديدة.
ورغم أن صفقة القرن لم تعلن حتى هذه اللحظة بشكل رسمي ، بيد أن وسائل إعلام غربية وعربية سربت العديد من تفاصيلها ، حيث قال مسؤولين أمريكيون أن الرئيس الأمريكي أوضح بأن هذه الخطة ستكون شاملة وتتناول كل القضايا والحدود واللاجئين حيث تتضمن الخطة أقامة دولة فلسطينية في غزة وأجزاء من أراضي سيناء بمساحة (720)كيلو متر مربع وذلك بإضافة مستطيل يمتد من رفح حتى حدود مدينة العريش طوله (24) كيلو متر وعرضه (30) كيلو متر وتلتزم الدول المانحة بتوفير عشرة مليارات دولار لإقامة الدولة الفلسطينية التي ستشمل بنيتها التحتية على مطار وميناء في غزة ومساكن ومشاريع زراعية وصناعية ومدن جديدة وتشمل أيضا محادثات سلام إقليمية بين إسرائيل والأقطار العربية وتتخلى عن فكرة حل الدولتين وتشمل ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية لإسرائيل إلى جانب الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية ووطن قومي للشعب اليهودي وهي باختصار تعني صفقة القرن فيما تعنيه بالنسبة للفلسطيني حكم ذاتي أبدي.
فالمساعي الأمريكية والإسرائيلية ومعها الرجعيات العربية المتخاذلة في دول الخليج والتي أصبحت –كعبة الصهاينة – تتآمر على كل ما يمت لفلسطين بصلة خدمة لبقائها في الحكم أمام شعوبها التي يبدو وكأنها قد استقالت من التاريخ والجغرافيا والكرامة والعزة بحكم سياسات حكامها الذي جعلوا منهم في ذيل الأحداث ويقفون على هوامش الأمم بفعل تأمرهم على أقدس قضية في العالم (قضية فلسطين) ، فالمساعي الأمريكية ليست اختراع جديد يقوم به ترامب بمباركة مسؤولين عرب ففي وقت سابق نشرت (بي بي سي) وثائق أفرجت عنها الحكومة البريطانية تعود إلى العام 1983 تكشف عن قبول زعماء عرب لنقل الفلسطينيين إلى سيناء وغزة ، فزعماء في دول الخليج العربي يمارسون الضغط على الفلسطينيين لإقناعهم بخطة ترامب التي أعلنت السلطة الفلسطينية رفضها لها وهو الموقف ذاته التي عبرت عنه قوى وأحزاب فلسطينية أخرى بصيغ مختلفة وأجمعت كلها على رفض الخطة ودعت لإسقاطها.
لا شك أن البذرة الملعونة للقفز فوق أي شكل من أشكال القضايا والثوابت الفلسطينية –وهي كلمة خبيثة كشجرة خبيثة أجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار – جرى غرسها في الرياض أثناء الاحتفال الباهر بما سمي بالشراكة الإستراتيجية التي باركتها العطاءات والمكارم الملكية وقد صاغها كوشنير بعبارة الابتعاد عن معضلة انتظار تسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من أجل التطبيع العربي مع إسرائيل وإحلال السلام في الشرق الأوسط ،وانطلاقا من هذه الرؤية فأن تحديد مكانة القضية الفلسطينية يأتي من خلال النظر إلى حالة المجابهة بين قوى المقاومة والممانعة من جانب والمشروع الصهيوني من جانب أخر، وهنا بالتحديد يبذل الحلف الأمريكي –الإسرائيلي –الرجعي العربي جهودا مركزة بهدف تبديد القضية الفلسطينية ومشاغلة القوى الفلسطينية بالوعود الكاذبة أحيانا وبالضغوطات السياسية والمالية والحروب أحيانا أخرى ، وأيضا يجب استحضار حالة المجابهة العالمية بين المحور الأمريكي الأوروبي الذي يستهدف الهيمنة على المنطقة مدعوما بقوى الرجعية العربية في المقابل يواجهه المحور الروسي الصيني المدعوم من إيران ودول البريكس ، وتجري مجابهة هذه الاستحقاق عبر محاولات فرض إستراتيجية الحلف الأمريكي –الإسرائيلي والتي تقوم على أن الأولوية في المنطقة هي مواجهة التهديد النووي الإيراني وفي هذا السياق يأتي تظهير الصراع الطائفي والمذهبي ليتقدم على الصراع مع المشروع الصهيوني.
على الصعيد الشعبي الفلسطيني لا ريب بأنه قد استقر في الوعي الجمعي الفلسطيني وفي الوجدان الفلسطيني بأنه ومن أجل التصدي لصفقة القرن وما يرتبط بها من مخططات سياسية مشبوهة فأن ذلك مدعاة للقوى الفلسطينية بكافة مكوناتها وأطيافها لإعادة بناء استراتيجية وطنية فلسطينية انطلاقا من استعادة التوازن بين مهام التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، وهذا يشمل إعادة تموضع الحركات التحررية الفلسطينية في إطار محور المقاومة والممانعة بكل ما يترتب على ذلك من خيارات سياسية ونضالية الأمر الذي يؤدي بنتيجة إلى استعادة القضية الفلسطينية مكانتها في الوعي الجمعي العربي كمقدمة لاستعادة مكانتها السياسية عند القوى السياسية الفاعلة .
إزاء تلك الأحداث والمعطيات نخلص إلى القول بأن الشعب الفلسطيني في إطار هذه التفاعلات يقف أمام أسئلة حاسمة وأساسية ! وأن القوى السياسية الفلسطينية والقوى الفاعلة في المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات أصبحت أمام استحقاقات خطيرة لا تفيد معها المواقف الضبابية أو التمترس في المساحات الرمادية ، فحالة الانحباس التي يعيشها الوضع الفلسطيني تعكس الإخفاق الاستراتيجي في إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني واهم دروس العقدين الأخيرين هو فشل استراتيجية الحل السياسي ، وستتحطم المؤامرة المسماة صفقة القرن على صخرة صمود الشعب الفلسطيني الجبار ،ففلسطين هي ذاكرة الشعوب العربية والأحرار في العالم ومن ينساها فقد أصابه خرف في الشرف والانتماء ، وأملنا كبير في شعبنا الفلسطيني في إسقاط كل المؤامرات التي يحاول الغاصبين تمريرها –فحصار حصارك لا مفر واضرب عدوك لا مفر –على ما قال الراحل الكبير محمود درويش.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/06/24