فضيحة القرنْ سياسة الجدران وعض اللسان
د. هشام أحمد فرارجة
لم يلبث الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب وإدارته أن يتبجحوا باعتمادهم سياسة اللاتهاون بشكل مطلق مع المهاجرين غير الشرعيين الذين يحاولون عبور الحدود الأمريكية، طالبين للجوء السياسي، تلك السياسة التي ترتب عليها فصل الأطفال عن أولياء أمورهم، حتى اضطرت هذه الإدارة للتراجع عن هذه السياسة، ولو مؤقتا. فبعد أن استمات ترامب في الدفاع عن سياسته اللاإنسانية، يبدو وكأنه قام بعضّ لسانه، حيث جاء هذا التراجع من خلال مرسوم رئاسي أصدره ترامب قبل أيام. هذا التراجع جاء نتيجة للضغوط الهائلة التي انصبت على هذه الإدارة، وخصوصا على ترامب نفسه أثناء اجتماعه بزعماء الحزب الجمهوري في الكونغرس الأمريكي. لم يكن مرد هذا التراجع أخلاقيا بأي شكل من الأشكال، وإنما بسبب تخوف ترامب وحزبه من انعكاسات هذه السياسة على نتائج الانتخابات التشريعية النصفية في شهر تشرين الثاني القادم.
وكما هو واضح، فان المرسوم الرئاسي الذي أصدره ترامب للتوقف عن فصل الأطفال عن أولياء أمورهم لم يضع حدا لفضيحة القرن المتفاقمة التي تسبب بها، والتي تلف أركان إدارته من رأسها وحتى أخمص قدميها. فبرأي الكثيرين من المراقبين، فان المرسوم المذكور يتسم بالعمومية والغموض المتعمد، حيث لا يحدد زمانا معينا للتوقف عن تطبيق هذه السياسة، ولا تفاصيلا تتعلق بالكيفية التي يمكن بموجبها العدول عن الاستمرار في عملية الفصل الشائنة. وقد رشحت الكثير من الأخبار التي تدلل على حالة من الارتباك في صفوف الجهات الرسمية المنوط بها مهمة تطبيق هذه السياسة أو إيقافها. وحتى الآن، أي بعد عدة أيام من إصدار المرسوم الرئاسي المتعلق بهذه السياسة، لا توجد تأكيدات بأن عملية الفصل قد توقفت وأن الأطفال قد تم جمع شملهم بأسرهم.
ولكن الملفت للانتباه في ظل تبلور هذه الفضيحة للدولة التي تدعي قيادتها للديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان في العالم هو الدلالات والمخلفات التي لا يمكن محوها من الذاكرة الإنسانية ومما سيدونه المؤرخون. فحسب ما هو متوافر من تفاصيل مرعبة، فانه تم فصل أكثر من ألفين وخمسمائة طفلا تتراوح أعمارهم بين السادسة والثالثة عشرة عن أسرهم، بينما تم فصل أكثر من خمسمائة طفلا تقل أعمارهم عن خمسة أعوام عن أولياء أمورهم. وقد تناقلت الأخبار مشاهد عن الحالة الهستيرية التي يعاني منها هؤلاء الأطفال نتيجة لسلخهم عن أسرهم بطريقة وحشية، وبسبب تعلقهم الطبيعي بأمهاتهم وآبائهم نتيجة لصغر سنهم. فهو أمر معروف أن أي طفل عندما يلحق بحضانة جديدة، غالبا ما يواجه صعوبات جمة في الانفصال المؤقت عن أمه وأبيه لساعة قليلة جدا. وحتى في مثل هذه الحالة، يحتاج الطفل دائما لتمهيد مسبق لكي يتقبل البيئة الجديدة ويتعود عليها. ومعروف أن الشرط الرئيسي المسبق لتقبل الطفل لبيئة جديدة وتأقلمه معها لا يمكن أن يتأتى إّلا إذا ما شعر بالأمان المطلق نتيجة لتشجيع أبويه له على ذلك. فما بالك بانتزاع أعداد هائلة من الأطفال من أولياء أمورهم عنوة والزج بهم في مراكز احتجاز، أشبه ما تكون بالأقفاص، مع أطفال آخرين غرباء عنهم، وفي بيئة لا تمت للإنسانية بصلة. ولربما يكون الأنكى والذي يدمي القلب، حقا، هو ما تناقلته بعض التقارير عن قيام الشركات الخاصة المقاولة التي أسندت إليها مهمة فصل الأطفال واحتجازهم بحقن الأطفال، بالقوة، بمواد مخدرة بحجة تهدئتهم وإيقافهم عن الصراخ والبكاء. وحسب هذه التقارير، عمد القائمون على مهمة الفصل بتهديد الأطفال بأنهم لن يروا آباءهم وأمهاتهم أبدا، إلا إذا ما رضخوا لعملية الحقن بالمواد المخدرة. والجريمة تكمن هنا في أن هؤلاء الأطفال فاقدون للأهلية بشكل كامل، ولا يتمتعون بحرية الاختيار على الإطلاق، وذلك لصغر سنهم، حيث أولياء أمورهم هم المسؤولون عنهم أمام القانون. ومن بديهيات الأمور في العالم أجمع أنه لا يمكن إعطاء طفل جرعة دواء، أو حتى أي نوع من الطعام إلا بموافقة والديه المسبقة، خطيا، نظرا لما يمكن أن يتعرض له الطفل من أضرار ومخاطر جسدية. وهذا يشكل انتهاكا صارخا لحقوق هؤلاء الأطفال الذين احتجزوا بشكل قصري. وان حقن هؤلاء الأطفال بمواد مخدرة ومهدئات غير معروفة المحتوى والتأثير يقلب رأسا على عقب ادعاء إدارة ترامب بأن سياستها بعزل الأطفال عن أولياء أمورهم يقصد منها ردع مروجي المخدرات.
ولكي يزداد الطين بلة، قررت سيدة أمريكا الأولى، زوجة ترامب، مالينيا ترامب الذهاب لتفقد بعض مراكز الاحتجاز لهؤلاء الأطفال وهي ترتدي جاكيتا مكتوبا عليهْ “أنا لا أهتم. فهل أنت تهتم”؟ وأيا كانت الرسالة التي تقصد مالينيا إرسالها، وبغض النظر عن الجهة التي قصدت إيصالها لها، إلا أنها، ويا للسخرية، نجحت في بعثرة التركيز من على فضيحة القرن التي تسبب بها زوجها لينصب على ما تقصده وعلى أية جهة أرادت إيصال رسالتها لها. فالجدل الذي أثارته تمحور حول احتمال أن تكون قصدت إرسال رسالتها إلى وسائل الإعلام التي يزدريها زوجها، أو ربما، إلى زوجها نفسه، الذي على ما يبدو، تدرك هي، بأنه لا يهتم للمعاناة التي سيتكبدها هؤلاء الأطفال المفصولون عن أسرهم، إلى الأبد.
رغم كل ما فيه من مرارة وألم، يمكن أن تضمحل أهمية كل ما قيل، نسبيا، ومع الأسف الشديد، إذا ما اعتبر تبلورا طبيعيا لرئيس لا يتمحور إلا حول ذاته وشخصيته النرجسية. فسياساته متخبطة في كل الاتجاهات. ولكن ما يستحق الانتباه الآن هو كيف سيحاول ترامب منتجة هذه الفضيحة! فمعروف عنه أنه يحاول تصدير أزمة ما بخلق أزمة أكبر منها، لكي يجعل الثانية تغطي على الأولى، وهكذا دواليك. والآن، لقد أصبح مؤكدا أن هناك خطة لاحتجاز أكثر من 47000 مهاجرا في قاعدة بندلتون البحرية في مدينة كونكورد في ولاية كاليفورنيا. إن الإقدام على خطوة من هذا القبيل ليؤشر على دلالات قد لا نعرف كامل تفاصيلها الدقيقة إلا بعد حين. فمن ناحية، إن هذا الاحتجاز الجماعي لهذه الأعداد الهائلة من المهاجرين ليذكّر باحتجاز اليابانيين الأمريكيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وبانتهاك كامل حقوقهم الإنسانية والدستورية. وان احتجاز عشرات الآلاف من المهاجرين الآن ليبعث أعمق القلق إزاء ما سينتهك من حقوقهم وإزاء ما سيعايشونه من ظروف قاسية لاإنسانية.
يجدر التذكير هنا أن أحد أهداف ترامب من وراء تطبيق سياسة فصل الأطفال عن أسرهم هو ردع مهاجرين غير شرعيين آخرين من القدوم إلى الولايات المتحدة. ولذلك، واعتمادا على فهم الطريقة التي يعمل من خلالها ويفكر بها ترامب، فان عملية الردع سوف تستمر. وهو أعلن ذلك صراحة عندما قال أن سياسة عدم التهاون سوف تستمر بشكل مطلق. فخلق حالة من الديمومة لعملية الاحتجاز، في الغالب، سيترافق معها تشديد لإجراءات القسوة واللاإنسانية بحق هؤلاء المهاجرين.
ولكن ربما يكون الأخطر في تفاقم هذه السياسة هو الأعداد لما هو أكثر خطورة. فكما ذكر في سياق آخر، فانه يبدو جليا أن وراء الأكمة ما وراءها، بحيث تعتبر عمليات الاحتجاز هذه تمهيدا لإقامة معسكرات احتجاز أكبر، وبمنشآت معدة مسبقا. فترامب نفسه معروف بعدائه للعرب والمسلمين، بمن فيهم من هم مواطنون أمريكيون يعيشون في الولايات المتحدة. وهو نفسه كان أثناء حملته الانتخابية قد لوّح بإمكانية إعادة تطبيق سياسة احتجاز اليابانيين الأمريكيين، ولكن هذه المرة بحق العرب والمسلمين، حيث أشاد بفاعلية ونجاعة تأثير عملية الاحتجاز تلك. وهو أيضا أمر معروف أن إدارة ترامب تعج بمن يعرفون بالصقور المعادين للعروبة والإسلام، كمستشاره للأمن القومي، جون بولتون، ونائبه العام، جف سشنز، وغيرهم كثيرون. ولا يخفى على أحد أن ترامب يحاول دائما إثبات جدارته عن طريق ادعائه بإيفائه لما قطعه من وعود والتزامات عندما كان مرشحا. وإذا ما استذكر المرء مئات، بل آلاف حالات الاعتداء التي تعرض لها عرب ومسلمون أبرياء، مواطنون أمريكيون في الولايات المتحدة، على أيدي عنصريين كارهين استمدوا الدعم المعنوي وسواه من مواقف ترامب وتصريحاته، يصبح عندها احتمال أن يكون إعداد مثل تلك القاعدة البحرية وسواها لاحتجاز أعداد هائلة مقدمة لاحتجاز أعداد أكبر من العرب والمسلمين، الذين يدعي ترامب أنهم خطر على الأمن القومي الأمريكي، احتمالا حقيقيا، يجب عدم إغفاله أو القفز عنه. فالدرجة التي يزدري فيها ترامب العرب والمسلمين لا حدود لها. بالنسبة له، هم ليسوا سوى متطرفين إرهابيين يجب منع من هم ليسوا أمريكيين من السفر إلى الولايات المتحدة. وبالنسبة له أيضا، يجب أن يقتصر التعامل معهم على حلب ثرواتهم ومصادرهم الطبيعية. وان كان البعض يعتقد أن هذا التفكير عند ترامب هو وليد ترشحه للرئاسة وفوزه بها، فالحقيقة هي أنه يحمل هذه العقلية العنصرية الكارهة منذ زمن بعيد. ففي مقابلة له في نهاية الثمانينات من القرن الماضي مع أوبرا وينفري كان قد صرح بأن هدفه هو الاستيلاء على مقدرات العرب وثرواتهم. وأثناء حملته الانتخابية، كان قد هدد الأنظمة السياسية في الخليج العربي برفع الحماية الأمريكية عنها إذا لم يشركوا الولايات المتحدة فيما يمتلكونه من مقدرات وأموال. بل وكان أكثر صراحة عندما قال بأن هذه البلدان بالنسبة له ليست سوى بقرة حلوب سوف يسعى جاهدا لاستنزاف ثرواتها. وقد جاءت تأكيدات ترامب هذه في أكثر من مناسبة لاحقا لتدلل على عمق شعوره بالازدراء والكراهية لكل من هو عربي ومسلم.
فقد نجح، بالفعل، في التأثير على بعض هذه الأنظمة وإجبارها على دفع مئات المليارات من الدولارات للولايات المتحدة، تحت ذرائع عدة.
وبالإضافة إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار احتمال أن تكون عمليات الاحتجاز الجماعي هذه، وبهذه الأحجام الهائلة، للمهاجرين غير الشرعيين تقدمة لما هو أعظم، فأن إدارة ترامب سوف تسعى بشكل حثيث لاستخدام عملية الاحتجاز هذه كورقة مقايضة مع الكونغرس الأمريكي لإجباره على تمويل بناء جدار حدودي فاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، مرة أخرى، تنفيذا لوعود قام بإطلاقها أثناء حملته الانتخابية، وان كان تعهد بإجبار المكسيك على تمويل بناء الجدار. فمن ناحية، فان إدارة ترامب تعتبر مؤسسات الاحتلال الإسرائيلي نموذجا يحتذى بها، من حيث بناء الجدران وقمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان ومعاداة المنظمات الحقوقية الدولية. فكما هو معروف، فان إدارة ترامب، من خلال ممثلتها في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، قامت بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تلبية للرغبة الإسرائيلية، وبحجة انتقاد المجلس المتكرر للقمع الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. ومما يعنيه ذلك هو أن الأرضية خصبة جدا، بالفعل، لاسرلة السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية في عهد ترامب، أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الولايات المتحدة. فحقيقة، أن إدارته حبلى بمن هم إسرائيليون، حقا، وليس فقط، بمن يدعمون الاحتلال الإسرائيلي. فالسفير الأمريكي نفسه في إسرائيل، دافيد فريدمان، إسرائيلي بالمواطنة. ومستشاره لشؤون الشرق الأوسط، جاريد كوشنر هو من أكبر الممولين لمشاريع الاستيطان الإسرائيلي، وعلى علاقة شخصية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنجامين نتنياهو. ومبعوثه للشرق الأوسط، جاسن غرينبلات إسرائيلي من الطراز الأول، ومع سبق الإصرار. ونائبه للرئاسة، مايك بنز، الذي يحمل فكرا أيفانجاليكيا متطرفا، يعتبر إسرائيليا أكثر من أكثر الإسرائيليين تطرفا. والقائمة تطول في هذه الإدارة بمن يعملون ليل نهار من أجل مزج السياسات الأمريكية والإسرائيلية بالكامل أكثر مما كانت عليه من قبل، وأيضا من أجل إحداث تغييرات جذرية في طبيعة السياسة الأمريكية، بحيث تصبح عملية الرجوع أو التراجع عنها أمرا شبه مستحيل، أو على أقل تقدير، أمرا في غاية الصعوبة.
فيجب أن لا يكون غريبا أو مستغربا أن تحمل الأيام القادمة جملة من تحديات جديدة، تفوق في فداحتها ما تم الإفصاح عنه حتى الآن، خاصة ما يتعلق منها بما يسمى بصفقة القرن. فكلما ضاقت دائرة التحقيقات القانونية حول ترامب، ازداد هو تخبطا وتوترا، ومن ثم وغلوا في محاولة لفت الأنظار عن طريق إتباع المزيد من السياسات المثيرة، ليس فقط للجدل، وإنما أيضا للصخب.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/06/25