دور الصين وروسيا في كسر هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد المالي العالمي…
د. طارق ليساوي
في أعقاب انخفاض قيمة الليرة التركية، و الحملة الشرسة التي يقودها الرئيس الأمريكي على الإقتصاد التركي ، و اتخاذه لقرار رفع الرسوم الجمركية على صادرات تركيا من الحديد و الألمنيوم ، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده سوف تتعامل في مبادلاتها التجارية مع الصين و روسيا و إيران بالليرة التركية، قد يبدو هذا القرار رد فعل ضد الموقف الأمريكي، لكن هو خطوة في اتجاه رغبة دولية -مترددة إلى حدما- في كسر هيمنة الدولار الأمريكي على النظام الاقتصادي و المالي العالمي، ويعد القرار التركي خطوة جديدة في اتجاه دولي أخد يتسع خاصة قبل الأزمة المالية لعام 2008، إذ تعرضت وظيفة الدولار الأمريكي بوصفه العملة الإحتياطية العالمية الأساسية للإنتقاد ، إلا أن حدة الانتقاد اشتدت بعد الإنكماش الإقتصادي الذي حل بالعالم…
فعلى المستويات الوطنية والدولية بدأ الحديث عن ضرورة وحتمية تغيير النظام المالي العالمي، وقد يكون من نتائج هذا التوجه التخلي عن الدور القيادي للدولار في نظام الحسابات المالية الدولية….
فالهيمنة الأمريكية على العالم ترجع بالأساس إلى هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي…و سنحاول في هذا المقال الإجابة عن الأسئلة الآتية : كيف بدأت هذه الهيمنة؟ وكيف تمكنت الولايات المتّحدة من الحفاظ على عملتها كأقوى عملة على المستوى العالمي بالإضافة إلى تعامل نسبة هائلة من التعاملات الاقتصادية بالدولار الأمريكي ؟ و هل بإمكان الدول و التكتلات الإقليمية استبدال الدولار في السوق الدولية والاستعاضة عنه بـ”سلة عملات”؟ وهل توجد رغبة حقيقية متزايدة في الاقتصاد العالمي لإيجاد بديل للعملة الأمريكية؟ وما مدى أهمية الدور الصيني و الروسي في كسر هيمنة الدولار؟
أولا- اتفاقية Bretton Woods و هيمنة الدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي: تم إصدار الدولار الأمريكي عام 1792م، و لم يكن الدولار آنذاك عملة ورقية، بل كان على شكل 3 فئات، الفئة الأغلى كانت مصنوعة من الذهب، والأقل منها قيمة كانت مصنوعة من الفضة والأخيرة كانت مصنوعة من النحاس. و تمّ اعتماد هذه العملة في 1792 كالعملة الرسمية للولايات المتّحدة.واستمر العمل بهذا النظام المالي إلى العام 1861 حيث اندلعت الحرب الأمريكية الأهلية بين الشمال والجنوب، آنذاك احتاجت حكومة الشمال المركزية المزيد من الأموال من أجل خوض الحرب ولم تكن ترغب بفقدان كل ما لديها من الذهب والفضة، مما دفعها إلى إنشاء العملة الورقية (الدولار الأمريكي بشكله الأخضر الحالي) عام 1862 وبدأت بطباعتها.
لكن صعود الدولار على المستوى العالمي بدأ مع الحرب العالمية الثانية، فقبل خروج الولايات المتحدة منتصرة من الحرب العالمية بعامٍ واحد، بدأت تعمل على إنشاء نظام عالمي جديد وبالتالي إنشاء نظام عالمي اقتصادي جديد، تكون الولايات المتّحدة والدولار الأمريكي رأس الهرم فيه. وقد حصل ذلك عن طريق اتفاقية Bretton Woods سنة 1944م.وحضر لهذه الاتفاقية 44 دولة من حول العالم، واستمر انعقاد المؤتمر لأكثر من 22 يومًا، تم فيه توقيع عدد كبير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تنظم التجارة العالمية الدولية بالإضافة إلى تطبيق بعض الشروط والقيود عليها…
وأهم مقررات المؤتمر كان اعتماد الدولار الأمريكي كمرجعٍ رئيسي لتحديد سعر عملات الدول الأخرى، فهذه الاتفاقية أدت إلى تشكيل نظام الصرف الأجنبي وتشكيل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتطوير والتعمير، وهي الاتفاقية الرئيسية التي رسخت هيمنة الدولار الأمريكي على تعاملات العالم الاقتصادية، حيث صارت هذه الدول الـ44 ترجع إلى الدولار الأمريكي لتحديد قيمة عملاتها دوليًا، وهذا الموقف كان بحكم أن الولايات المتحدة تمتلك نحو 75% من ذهب العالم لوحدها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان الدولار الأمريكي هو العملة الوحيدة على مستوى العالم المُغطاة بالذهب ، مما دفع عددًا كبيرًا من دول العالم إلى العمل على تكديس الدولارات الأمريكية بهدف استبدالها بالذهب مستقبلًا كاحتياطي، وصار عدد كبير من هذه الدول يستخدم عملة الدولار كاحتياطي النقد الأجنبي بدلا عن الذهب لكن قرار نيكسون عام 1971 ألغى قاعدة غطاء الذهب.
ثانيا- صدمة نيكسون و إلغاء غطاء الذهب : بفعل تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام ( 1956– 1975)، إحتياجها إلى المزيد من الدولارات لتغطية تكاليف الحرب، ولما كانت الدولارات لا تكفي، بحكم أن الذهب الموجود في الولايات المتحدة والعالم، لم يعد كافي لتغطية الدولار الأمريكي، فأصبح نتيجة لذلك من المتعذر طباعة المزيد من الدولارات لأن الذهب الموجود لم يعد كافيا لتغطيتها، وبالتالي قامت الولايات المتّحدة بتجاوز الحد الأعلى المسموح من الدولارات المطبوعة، وقامت بطبع دولارات غير مغطاة بالذهب دون أن تُعلِم أحدا بذلك.
وانفجرت الأزمة الكبرى عندما طالب الرئيس الفرنسي تشارل ديغول عام 1971م بتحويل الدولارات الأمريكية الموجودة لدى البنك المركزي الفرنسي إلى ذهب ، عملًا باتفاقية Bretton Woods التي تسمح بذلك، وهو ما أدى إلى عجز الولايات المتحدة عن تحويل أي دولارات أمريكية إلى الذهب، الأمر الذي قاد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إلى إصدار بيان في عام 1971 يلغي فيه التزام الولايات المتحدة بتحويل الدولارات الأمريكية إلى ذهب، عُرفت فيما بعد باسم Nixon Shock ، و كنتيجة لهذا القرار أصبح الذهب يخضع لقانون العرض والطلب، وأصبحت جميع العملات بما فيها الدولار الأمريكي تقف على أرضٍ واحدة وصارت عملاتٍ إلزامية ورقية لا قيمة لها في الواقع سوى التزام الحكومات بها. و نتيجة لذلك، انخفضت قيمة الدولار بنحو 40 ضعفًا من عام 1973 إلى الوقت الراهن في مقابل ارتفاع سعر الذهب ..
وشكلت صدمة نيكسون ، أكبر خدعة في تاريخ النظام المالي العالمي، و نهب ممنهج لمدخرات البلدان و مقدراتها الإقتصادية، فبعد أن كانت معظم الدول تعمل ادخار الدولار الأمريكي كاحتياطي للنقد الأجنبي منذ 1944 بغرض استبداله بالذهب عندما تريد، تغيرت قواعد اللعبة، والأسوأ أنها ظلت مجبرة على التعامل بالدولار، لأنها لا يمكنها التخلي عنه بعد أن قامت بتجميع كل هذه الدولارات في الاحتياطي النقدي الأجنبي…والسؤال الذي طالما تم طرحه بعد صدمة نيكسون: لماذا لا تقوم الدول بفك الارتباط من الدولار وإلغاء التعامل به؟
الجواب عن هذا السؤال يعود إلى القوة العسكرية الأمريكية فالأسطول الأمريكي يجوب العالم بأسره ويفرض نظام للجزية، نتيجة لغياب قوة عسكرية رادعة، فالقوة العسكرية هي من تحمي القوة الاقتصادية، والقوة الاقتصادية للولايات المتحدة مرتبطة باستمرار الدولار كعملة نقدية احتياطية أجنبية على مستوى العالم، فجميع الدول مرغمة على التعامل به بالإضافة إلى كونه العملة الرئيسية التي يتم تحديد باقي العملات بناء عليها، غير أن الأزمة المالية لعام 2008 و التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي أضعفت هيمنة الولايات المتحدة بشكل عام و هيمنة الدولار بشكل خاص،و مما عمق من ذلك صعود توجه دولي تقوده الصين و روسيا يحاول الحد من هيمنة الدولار في الحسابات الدولية و المبادلات التجارية، وهو ما سنحاول توضيحه في المحور الموالي..
ثالثا- الجهود الدولية لكسر هيمنة الدولار الأمريكي
بعد الأزمة المالية لعام 2008 ، اتسعت عدوى القلق من هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد المالي العالمي، و هذا التوجه تعمق مع سعى الصين باعتبارها ثاني اقتصاد عالمي إلى تقوية نفوذ اليوان في التجارة الدولية للصين ، لذلك عملت الصين على صياغة اتفاق بين بلدان “منظمة شنغهاي” على تبني العملات الوطنية في التبادلات التجارية البينية، كما عبرت دول الخليج ، إلى جانب روسيا والصين واليابان وفرنسا،عن نيتها في وقف التعامل بالدولار في حسابات النفط. وبدل الدولار يتم تبني “سلة عملات” تضم الين الياباني واليوان الصيني واليورو والذهب وكذلك العملة الموحدة دينار الخليج الذي كان من المتوقع إصداره قبل حصار قطر و نسف حلم العملة الموحدة ..
و الجدير بالذكر، أن الصين منذ 2009 تحاول قيادة حملة دولية لكسر هيمنة الدولار، فقد دعا البنك المركزي الصيني، إلى عملة “عابرة للدول” يجب أن تحل مكان الدولار، ودعا البنك إلى إتباع قواعد أكثر صرامة فيما يتعلق بالدول التي تطبع كميات اكبر من العملة للحد من الأزمة الاقتصادية الراهنة وقال “إن سيطرة عملة وحيدة على النظام النقدي العالمي يؤدي إلى زيادة مخاطر توسع انتشار الأزمات المالية”…وقد انتقدت الصين السياسة التي اتبعتها الحكومة الأمريكية منذ 2008، بهدف تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تواجهها، ففي ظل وضع كهذا من الصعب إيجاد التوازن المطلوب بين السياسات المحلية الأمريكية، وبين ما يتطلبه كون الدولار العملة الأساسية للاحتياطات النقدية العالمية، فالإجراءات التي تتبعها الحكومة الأمريكية لتحفيز النشاط الاقتصادي، لاتخدم بالضرورة مصالح باقي دول العالم، و من ذلك سياسة الدولار القوي و أيضا حروب ترامب الحمائية..
ومن دون شك، أن المواقف العدوانية لترامب و السياسات المالية و النقدية الضيقة الأفق، التدابير الجنائية المهددة لحرية التجارة العالمية، ولاستقرار النظام الاقتصادي العالمي، لها دور في تسريع جهود كسر هيمنة الدولار، و هذه الجهود تقودها الصين و روسيا بالأساس، من داخل منظمة شنغهاي، فهذه المنظمة أصبحت رأس الحربة في مواجهة الهيمنة الأمريكية، وذلك بفعل القوة العسكرية للصين و الهند و روسيا وباكستان،إلي جانب الدور الإقتصادي المتنامي لمنظمة شانغهاي، فقد تجاوز إجمالي الحجم الاقتصادي للمنظمة 15 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يعادل 20 في المئة من الاقتصاد العالمي البالغ 74 ترليون دولار، ومن المرجح أن تتوحد الجهود الدولية لكبح جماح السياسات التجارية العدائية لترامب، و أبرز ألية للحد من هذا التهور إيجاد ترتيبتات و تدابير متعددة الأطراف لاستبدال الدولار بعملات أخرى في المبادلات التجارية، وذلك دون شك بداية النهاية لنظام الجزية المفروض على العالم من قبل البيت الأبيض منذ نهاية الحرب العالمية الثانية…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون..
أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي..
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/08/14