إشكالية العلاقات الدبلوماسية بين الدول
د. سعيد الشهابي
توتر العلاقات بين الدول أمر طبيعي يحدث باستمرار لأسباب مختلفة وقد يؤدي لقطع العلاقات، بل ربما تسبب في اشتعال الحروب التي تطورت في بعض الحالات لتصبح حروبا «عالمية». وبرغم أن الشعوب عادة لا علاقة لها بالتوترات، إلا أنها تدفع الثمن الأكبر لما يتمخض عنها. وفي الأوضاع العادية تنطلق وساطات من الدول الصديقة لأحد الطرفين أو كليهما، أو من الأمم المتحدة لرأب الصدع وإعادة المياه إلى مجاريها، وتفلح هذه الوساطات عادة ولكنها قد تفشل كذلك. وتسعى الدول ذات الدبلوماسية الفاعلة لتجاوز الأزمات بطرح الحلول الوسط لكي تتجنب التصعيد وتداعياته. ولكن المشكلة تتفاقم عندما يكون للدول طموحات توسعية أو رغبة في الهيمنة أو فرض السيطرة على الدول الأخرى المجاورة. وهنا تتلاشى الحنكة السياسية وتفقد المبادرات تأثيرها. وغالبا ما تفشل تلك المحاولات في احتواء المشكلة في مثل هذه الحالات، وقد تضطر الدولة الطامحة للتراجع بالبحث عن مخارج تحفظ ماء الوجه. وثمة مشكلة أخرى تتمثل برغبة بعض الأنظمة في بسط النفوذ والتوسع خارج الحدود.
وقد يكون لدى بعض الأنظمة غرور أو يكون حكامها مصابين بداء العظمة، الأمر الذي طالما أدى لسقوط الحكومات والدول. كما أن الكثير من الأزمات ينجم عن سوء تقدير الحكومات مستويات الخطر وغموض النتائج المتوقعة عن تداعي الأمور. ويمكن القول أن كثيرا من الأزمات التي تعاني منها المنطقة العربية ناجمة عن هذه الظواهر التي تزداد اتساعا بتعمق الاستبداد والحكم الفردي. كما أن توفر المال النفطي وتلاشي القيم الديمقراطية والحقوقية في الغرب، كل ذلك من عوامل التراجع في الأمن المحلي والإقليمي وكذلك العلاقات الإقليمية والدولية. ولا بد من الإشارة إلى أن الايديولوجيا المشتركة بين الدول توفر دعما دبلوماسيا للدولة عندما تختلف مع غيرها من خارج منظومتها الايديولوجية.
ثلاثة أمثلة لهذه الظاهرة قد تساهم في توضيح الفكرة.
المثال الأول: السياسة التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمحاصرة إيران وتشديد العقوبات عليها، ابتداء بإلغاء الاتفاق النووي وصولا لمحاولات جر الدول الأخرى للتصعيد معها. حتى الآن لا يبدو أن النجاح سيكون من نصيب هذه السياسة لأسباب عديدة منها الخشية من الاستخفاف بالعمل الدولي المشترك والانحياز الأمريكي الواضح للكيان الإسرائيلي وعدم الثقة بسياسات ترامب وتطرفه برفض الاتحاد الأوروبي ككتلة سياسية منافسة للولايات المتحدة.
سعى الرئيس الأمريكي للضغط على الدول الخمس الأخرى التي ساهمت بجهود حثيثة للتوصل إلى الاتفاق المذكور، للانسحاب منه. ولكن الدول الخمس الأخرى تعتبره اتفاقا متميزا لا يمكن التفريط به لأن ذلك يضعف الحماس للعمل المشترك لحل الأزمات الدولية. ولا تختلف أساليب ترامب التي تتبنى أساليب الترهيب والتهديد التي تقترب مما يمكن تسميته «بلطجة سياسية» من الأساليب التي تنتهجها حكومات أخرى كما سيتضح لاحقا في هذا المقال. فقد سعى لفرض قراره الانسحاب من الاتفاق المذكور بالإعلان عن عقوبات أمريكية ليس على إيران فحسب بل على الشركات الأوروبية التي تتعامل معها أيضا. وقد انصاع عدد منها لذلك، ومن بينها شركة إيرباص التي جمدت اتفاقات تزويد إيران بطائرات حديثة لدعم أسطولها الجوي الذي يعاني من نقص في الطائرات والمعدات. كما تم تجميد اتفاقات أخرى لتزويد إيران بالمعدات الصناعية والتنقيب عن النفط وتطوير الحقول النفطية الإيرانية كما فعلت شركة توتال الفرنسية التي انسحبت من مشروع تطوير حقل بارس الإيراني وسواها. هذا بالإضافة لوقف التعامل المالي مع إيران وفرض حصار على كافة نشاطاتها المصرفية. هنا استخدمت أمريكا إمكاناتها الاقتصادية ودورها في إدارة النظام المصرفي العالمي لإجبار الدول الأخرى على الانسحاب من الاتفاق النووي المذكور.
المثال الثاني: يتمثل بالسياسة البريطانية تجاه روسيا في ضوء ما تعرض له مواطن روسي مع ابنته في مطلع هذا العام من استهداف بغاز الأعصاب (نوفيتشوك) كاد يقضي عليهما. ويعتقد أن تلك المادة أدت لوفاة مواطنة بريطانية وإصابة آخر بالعمى وذلك بعد بضعة شهور على الإصابات الأولى. بريطانيا حاولت تعبئة أوروبا لمشاركتها في استهداف روسيا ومقاطعتها دبلوماسيا واقتصاديا. واتضح وجود تأرجح في موقف الاتحاد الأوروبي إزاء روسيا ما بين إظهار حماس محدود لمعاقبة روسيا والاستمرار في العلاقات الدبلوماسية المعتادة مع موسكو. بريطانيا سعت لتعبئة أوروبا لتلتزم بموقف مشترك معها ضد روسيا. جاء ذلك في الوقت الذي قررت بريطانيا فيه الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وهو قرار اغضب الدول الأقوى في الاتحاد ومنها ألمانيا وفرنسا وايطاليا. وكان موقف بريطانيا غريبا من جهة وتعبيرا عن شيخوخة دبلوماسية من جهة أخرى. فما دام شعبها قد قرر الانسحاب من الاتحاد الأوروبي فكيف تطالب دول ذلك الاتحاد بالوقوف معها؟
الضغط البريطاني على أوروبا ساهم في صدور بعض الخطوات الأوروبية ضد روسيا ولكن سرعان ما تبدد ذلك وعادت العلاقات مع موسكو إلى حالتها الطبيعية. كانت حكومة السيدة ماي تسعى لمحاصرة إدارة الرئيس بوتين سياسيا واقتصاديا وبذلك تؤكد فاعلية الموقف البريطاني وتحافظ على موقع بلادها في السياسة العالمية. واعتقدت أن ما لديها من أدلة تثبت تورط روسيا في استخدام مادة «نوفوتشيك» لتسميم المواطن الروسي سيرجي سكريبا وابنته ستدفع أوروبا لمسايرتها في محاصرة روسيا، ولكن ما مصلحة أوروبا في ذلك؟
المثال الثالث: هو النمط السعودي في التعامل الدبلوماسي بعد أن تخلت الرياض عن سياستها السابقة التي تميزت بالهدوء والدبلوماسية الصامتة. كانت الرياض تمارس سياستها بالتواصل السري من جهة وعبر المنظمات والمؤسسات الخاضعة لنفوذها مثل منظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقا) ورابطة العالم الإسلامي والمؤسسات الدعوية داخل المملكة وخارجها من جهة أخرى.
وكانت تلك الدبلوماسية تهدف أساسا للحفاظ على البيت السعودي وضمان ولاء المواطنين والحلفاء الخليجيين. وعلى مدى ثلاثين عاما من عمر مجلس التعاون الخليجي سعت الرياض للحفاظ على ذلك الكيان ليكون ذراعا دبلوماسية وأمنية تمارس من خلاله النفوذ الإقليمي والعلاقات الخارجية. لكن هذه الدبلوماسية تغيرت بعد رحيل الملك عبد الله.
اليوم تمارس السعودية علاقاتها مع الدول الأخرى بأساليب مختلفة لسببين: أولهما الخشية المتصاعدة من احتمال سقوط نظام الحكم إذا حدثت تغيرات جوهرية في منظومة الحكم العربية، وضمان هيمنة سياسية إقليمية تساعدها على توسيع نفوذها وتصفية الحسابات مع الدول المناوئة. فمثلا تحت مسمى قوات درع الجزيرة تدخلت السعودية في البحرين بدعم من الإمارات. ولم تعلن السعودية الحرب على اليمن إلا بعد أن ضمنت مشاركة 13 حكومة أخرى في ذلك العدوان.
في البداية استطاعت الرياض جر تلك الدول لإرسال قوات للمشاركة في عدوانها على ذلك البلد العربي المسلم، ولكن سرعان ما انسحبت قوات عدد من البلدان. وأصبح واضحا أن المشاركة إنما كانت في مقابل مليارات الدولارات. مع ذلك سحب السودان قواته ولم يعدها إلا بعد أن تعهدت السعودية بتقديم المزيد من الأموال. وسحبت المغرب قواتها قبل بضعة شهور ولكنها أعادتها بعد مفاوضات شملت الجانب المالي.
السعودية تفضل تنفيذ سياساتها عبر «تحالف» يشمل دولا أخرى لتجنب اللوم المباشر لسياساتها. ولم تعلن الرياض قطع علاقاتها مع طهران إلا بعد أن ضمنت دعم دول أخرى مثل جيبوتي والسودان والصومال. وهذا يؤكد أنها لا تستطيع جر الآخرين لدبلوماسيتها دائما. فحين قررت قطع علاقاتها مع دولة قطر لم يستجب لدعوتها سوى حكومة البحرين. أما عندما توترت علاقاتها مع كندا فأنها لم تجد أية دولة أخرى تدعمها. وساهم في ذلك إصرار كندا على موقفها وأنها لن تتراجع عن دعم حقوق الإنسان ومطالبتها السعودية بإطلاق سراح النساء اللاتي اعتقلن بسبب موقفهن أو نشاطهن السلمي.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/08/27