أميركا من العولمة إلى الانعزالية؟
محمّد لواتي
حاول ترامب الخروج من الأزمة بحروب الاقتصاد والخروج من كل الاتفاقيات الدولية (اتفاقية باريس للمناخ واتفاقية النووي) فإذا هو محاصر بها من شركائه ما عدا الدول المارقة مثل إسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين.
أكيد، العالم منشغل بالتوقّعات الكارثية لنتائج الحرب التجارية على كل الأطراف وعلى الاقتصاد العالمي عامة. وأمام هذا الهول الاقتصادي المتوقّع أعلن موقع "واشنطن فري بيكن" في تقرير إن مصرفي "جي بي مورغان" و"سيتي بانك"، وهما من أكبر المصارف الأميركية، أعلنا أنهما لن يواكبا سياسة ترامب في منع إيران من الوصول للأسواق العالمية.
وقد يتطوّر الرفض إلى كبريات المؤسّسات الأميركية خاصة العاملة منها في الصين. هذا الرفض أيضاً قد يتوسّع إلى الشارع الأميركي ضد ساسة ترامب، وتكون انعكاساته خطيرة على الوضع الداخلي الأميركي.
والذي يبدو اليوم هشاً مع جرائم القتل التي تأتي يومياً على الأفراد وأحياناً بشكل جماعي في المدارس أو في أماكن اللهو .. وأمام هذا الاحتمال الوارد وتؤكّد عليه الصحافة الأميركية ومراكز البحث عاد صنّاع القرار في أميركا كعادتهم في كل فشل يصيبهم إلي البداية الأولى للحرب على سوريا بالقول على الرئيس الأسد أن يرحل من الحكم؟!
وإن أميركا باقية في سوريا ما لم يتم لها ذلك، وبشرطها! مع أنها تعرف مسبقاً أنّ الوقت قد فاتها، وإنها أضحت مجرّد تمثال للوهم، في منطقة التنف. يقول جيمي كارتر في آخر مقال له نشرته صحيفة نيويورك تايمز، عن خفوت وتفرّق الأصوات التي كانت عام 2011 قوية ومتّحدة حول شعار "الأسد يجب أن يرحل".
لفت كارتر إلى إمكانية أن يبدأ الغرب وأميركا بإعادة فتح سفاراتهم في سوريا، قائلاً إن الغياب الدبلوماسي لتلك الدول عن دمشق أدّى إلى ضياع الكثير من الفرص"، لم تكن لأميركا نيّة في محاربة الإرهاب وتدّعي أن حزب الله وإيران هما أولى بحربها؟ نعم حين تدفع هي لإسرائيل المليارات وبلا حدود لقتل الفلسطينيين ترى في ذلك عملاً إنسانياً وأخلاقياً - من وجهة نظرها فقط - مع أن العالم متفق على أن إسرائيل - وليست إيران أو حزب الله - هي المهدّدة للسلم العالمي.
النفاق الأميركي يستمد قوته من النفاق الإسرائيلي، ثم لاحقاً النفاق السعودي والإماراتي، لكن يبدو أن دعوات "التعاون مع واشنطن لإنهاء تهديدات إيران للأمن العالمي" جاءت عكس ما كان ترامب يخطط له، إذ بعد أن علم أن الاتحاد الأوروبي قدّم مساعدة أولية لإيران في إطار مواجهة العقوبات الأميركية حتى اعتبر ذلك خطأ في خطأ "اعتبرت الولايات المتحدة أن مساعدة الاتحاد الأوروبي لإيران بدفع أكثر من 20 مليون دولار لطهران "رسالة خطأ في الوقت الخطأ"، غير أن هذه المسيرة المتهوّرة لسمسار البيت الأبيض بتعبير الإعلام الأميركي تعيد للأذهان المثل العربي القديم القائل: "إذا كان بيتك من زجاج، فلا ترم الآخرين بحجر". وفي أغلب الأحيان يبرّر خطأه القاتل بتحدّي روسيا بالعقوبات لإظهار أميركا كقوة صانعة للسلام بدل الحرب، وقد وقع هنا في تناقضات عدّة بما قاله ويقوله عنها وكأنه يحارب على طرفين نقيضين، روسيا شريك في السلام العالمي يقول، وروسيا مدمرة له مع تفاهماتها مع الصين يقول أيضاً مع أنه يعرف أن روسيا صنعت فعلاً العالم الجديد المتعدّد الأقطاب من قلب سوريا وإنها صارت متفوّقة في المجال العسكري".
كشفت مجلة National Interest الأميركية ذلك، وأشارت إلى أن" تأخّر الولايات المتحدة عسكرياً عن روسيا أمر واقع وأكثر من حقيقي، وهو واضح في أوروبا الوسطى والشرقية. وفي الوقت الذي تبدو فيه منافسة موسكو مع واشنطن حول العالم أمراً يمكن مناقشته، إلا أن روسيا لديها قصب السبق وبعض الإمكانيات والموارد اللازمة لمواجهة تحديات الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة معينة، ولا سيما في أوروبا، حسبما قالت الخبيرة الإستراتيجية".
إذن عظمة الدركي العالمي المزيّفة أمام المحك، وبالتالي، يبدو أن ترامب يريد إعادة الولايات المتحدة إلى عظمتها، إما بالحصار الاقتصادي والسياسي على الكل أو عبر فرض جمارك على البضائع الواردة إلى أميركا، كي تصبح أغلى مما يسمح للشركات المحلية الأميركية ببيع بضائعها.
مع أن أميركا تسير داخلياً نحو التفكّك والانهيار، يؤكّد صاحب كتاب (الحضارة الأميركية) موريس بيرمان ذلك، وقد بدأ مُقدّمة الكتاب بقوله: "إن الحضارة الأميركية في ورطةٍ يشعر بها ويحسّها ملايين الأميركيين مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، وبعض المئات منهم يكتبون الكُتب والمقالات عنها، موثّقين اتجاهاتها ومُحلّلين أسبابها". ويضيف"هناك مؤلّفات مثل "انتظار البرابرة" للويس لابهام أو "إمبراطورية فقر" لروبرت كابلان، تملأ رفوف المكتبات، قد تحدّثت عن الأنظمة المدرسية المُتهاوية، والأميّة الوظيفية المُنتشرة على نطاقٍ واسعٍ، وجرائم العُنف، وعدم المساواة الاقتصادية الصارِخة، واللامُبالاة، وما يُسمّى بـ"الموت الروحي".
إن الأمر لا يحتاج لـ"إمرسون" أو "إينشتاين" لإدراك أن النظام الرأسمالي فَقَدَ مرساته وهو يجنح بشكلٍ مُتزايدٍ نحو حال اختلال وظيفية مثل روما القديمة"، واليوم تبدو أميركا في حال الانهيار فعلاً بالنظر إلى التفكّك الذي يعيشه العالم اليوم بسبب القوى الصاعدة (الصين وروسيا والهند ومعهم مجموعة بريكس"، وقد دعت ألمانيا وجزء من أوروبا للخروج من النظام المالي الأميركي، جاء ذلك على لسان وزير الخارجية الألماني، هيكو ماس أنه "يجب إنشاء نظام مالي مستقل عن الولايات المتحدة للحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران". وإذا تم هذا على المستوى الأوروبي مضافة إليه الصين وروسيا، فإن أميركا لن تكون محاصرة اقتصادياً فحسب، بل ستكون ضمن إطارها الجغرافي اقتصادياً وسياسياً، وهنا تكمن المصيبة لها.
لقد نصّب ترامب نفسه المنقذ لأميركا بقوله "أميركا أولاً"، فإذا به أميركا المنهارة أولاً. لقد بدأ سياسته بالحصار الاقتصادي ضد روسيا وإذا بمؤسساته تستورد البترول من روسيا "أن منتجي البنزين المحليين بدأوا بشراء النفط من روسيا، الأمر الذي، وفقاً لـ oilPrice، يُدخل بعداً جيو سياسيّاً واضحاً إلى مسألة اقتصادية عادية". إن "الولايات المتحدة غرقت بالذات في وحول العراق وأفغانستان"، كما يوضح ردُّ مسؤول روسي على ترهات جون بولتون في تصريح له من إسرائيل. وهنا يمكن توصيف الضعف الذي عليه ترامب بوضع اثنين من رؤساء أميركا خرجا من الحكم بتراجيدينا هي الأسوأ في التاريخ الأميركي، هما جون كينيدي الذي اغتيل لأنه وقف إلى جانب السود في حقوق الإنسان، والرئيس نيكسون الذي قيل إنه تجسّس على الحزب الديمقراطي في "فضيحة ووتر جيت".
إن أميركا التي أجّجت الحروب الطائفية من الفوضى الخلاّقة إلى الثورات الملوّنة، ظنّت أن قوّتها المنتشرة في العالم قادرة على تصنيع سياستها وفق منطق "ما أريكم إلا ما أرى".
يقول الصحافي الأميركي نيك تورس "إن قوات النخبة الأميركية كانت منتشرة في 147 بلداً في العام 2015، أي 70% من دول العالم، وفي هذا الصدد يقول تورس: "بالنسبة لأميركا، قد تكون سنة 2016 سنة الكوماندوس، حيث تنقّلت القوات الخاصة في مناطق النزاع واحدة تلو الأخرى في شمال أفريقيا والشرق الأوسط الكبير"، غير أن هذا الوهم اصطدم بحقائق لم تكن متوقعّة، فقد انقلب الإرهاب الذي كوّنته مع السعودية إلى شؤم اكتوت بناره، بداية في حادث 11/9 وإلى الآن هي غارقة في مستنقعه في أغلب دول العالم.
لقد حاول ترامب الخروج من الأزمة بحروب الاقتصاد والخروج من كل الاتفاقيات الدولية (اتفاقية باريس للمناخ واتفاقية النووي) فإذا هو محاصر بها من شركائه ما عدا الدول المارقة مثل إسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين. يؤكّد موقع ذي ماركر أن "أميركا تتراجع من 40% إلى 15% من اقتصاد العالم"، وبالتالي فإن الولايات المتحدة ستخسر الكثير من ذلك، حيث ستكون معزولة وأقلّ مركزيةً، وربما أكثر فقراً.
لصالح موقع "الميادين نت"
أضيف بتاريخ :2018/09/01