لا جدوى في دموع التماسيح عندما ينعدم الضمير: ترامب وحقوق الإنسان
د. هشام أحمد فرارجة
صحيح أن الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب لا يتحدث بلغة حقوق الإنسان ولا يتبجّح بأنه من أنصارها ودعاتها. وصحيح أن ترامب لا يأبه كثيرا بما يحدث في العالم من عذابات، وحتى في الولايات المتحدة نفسها من انتهاكات صارخة لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني. بل وأيضا صحيح أن ما يعني ترامب، بالدرجة الأساسية، ليست المثل والقيم الإنسانية العامة، بمقدار ما يعنيه ما يستطيع تحقيقه من مكاسب وأرباح وفوائد تعود عليه هو شخصيا بالنفع.
ولكن رغم هذه الانعطافة للرئيس الأمريكي بعيدا عن التغني بالدفاع عن حقوق الإنسان، وتصدر المناداة باحترامها، والتعبير عن الاستعداد للدفاع عنها، إلا أن الولايات المتحدة كانت، ولا زالت، تستخدم سنفونية حقوق الإنسان كأداة تبريرية لغرض في نفس يعقوب، وذلك لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية واقتصادية بالغة الأثر في أكثر من بلد في العالم، في ذات الوقت الذي يزخر فيه سجل التاريخ بعديد الممارسات الأمريكية التي تضرب بعرض الحائط حقوق الإنسان، وتقلب منطق الأشياء رأسا على عقب، بحيث تشرّع ما هو غير قانوني، وتدعم المستبد ضد المستضعف، وتقيم الدنيا ولا تقعدها عندما يقوم غيرها ممن ليس من الأصدقاء أو الحلفاء بالمساس بحقوق الإنسان. فكل ما يكابده قطاع لا بأس به من مواطنيها من حرمان اقتصادي، وانعدام للمأوى والمسكن، وتشرد في الشوارع، وانغماس في أعلى درجات الجريمة المنظمة في العالم، وتزايد للمعاناة بسبب الفقر الذي أخذت تصل نسبته إلى قرابة 15% في المجتمع، وتعرض لوطأة شظف العيش والكد في تحصيل قوت الحياة اليومي عند الكثيرين، كل ذلك وأكثر لا يبدو يندرج ضمن سنفونية حقوق الإنسان لدى صناع القرار وراسمي السياسة في الولايات المتحدة.
ورغم هذا الانفصام الصارخ في السياسة الأمريكية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، إلا أن الولايات المتحدة قد شنت أعتى الحروب وأحدثت أفظع الدمار ضد عدد لا يستهان به من الشعوب والبلدان عبر العقود. فباسم حقوق الإنسان، وبالطبع لأسباب أخرى معلنة وغير معلنة، قطعت الولايات المتحدة آلاف الأميال لشن اعتداءاتها على فيتنام وأفغانستان. وباسم حقوق الإنسان، قامت الولايات المتحدة بتدمير العراق واحتلاله وقتل وتشريد الملايين من شعبه. وباستخدام ذريعة حقوق الإنسان، تسارع الولايات المتحدة اليوم للتضييق على النظام السياسي في إيران من خلال العقوبات الاقتصادية. وأيضا اعتمادا على استخدام معزوفة حقوق الإنسان، قامت الولايات المتحدة، مستعينة أحيانا ببعض حلفائها في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، بتوجيه ضربات صاروخية لسوريا، بحجة استخدام النظام السياسي أسلحة كيماوية ضد شعبه. وعكفت الولايات المتحدة في هذه الآونة على إعادة إنتاج تهديداتها لسوريا بتجديد القصف بسبب ما تزعمه من نية للنظام السوري لتكرار استخدامه للسلاح الكيماوي، ربما في مدينة ادلب وضواحيها. ولا يغيب عن الذهن ما ارتكبته الولايات المتحدة من مجازر تقشعرّ لها الأبدان على أراضيها ضد السكان الأصليين الذين يعرفون بالهنود الحمر، وفي أمريكا اللاتينية والهند الصينية. وبالتأكيد، فان التاريخ لن يغفر للولايات المتحدة أنها الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي، كما فعلت أثناء الحرب العالمية الثانية في مدينتي هيروشيما ونكزاكي في اليابان.
وفي ذات الوقت، تجد الولايات المتحدة تتجاهل، كليا، انتهاكات ممنهجة ومنتظمة لأبسط حقوق الإنسان في اليمن، وأيضا في ميامنمار ضد أقلية الروهينيا المسلمة. وليس سرّا أن هذه الانتهاكات الصارخة تتم على أيدي بعض من هم تابعون وحلفاء للولايات المتحدة، ممن تزوّدهم بقنابل القتل والحرق للأطفال والنساء وكبار السن. محللون كثيرون يجمعون أن هذه الانتهاكات ترتقي إلى كونها جرائم حرب بشعة. فمشاهد الموت، خاصة مؤخرا، قد هزت العالم بسبب فظاعتها. وما وثّقته تقارير أممية عدة من معلومات، لا يبدو أنها حركت وازعا أو ضميرا عند صناع السياسة الأمريكيين.
ولكن هناك في محيط الولايات المتحدة نفسها من التطورات التي تدعو للفزع وتثير الريبة بخصوص عدم اكتراثها لأبسط قواعد حقوق الإنسان، حتى عند بعض مواطنيها. ففي العام الماضي، تعرضت منطقة بورتوريكو لإعصار عاتٍ يدعى ماريا. وعندها سارعت إدارة ترامب لإعطاء الانطباع أنها قدمت كافة أشكال العون والمساعدة لهذه الجزيرة للتقليل من حجم الخسائر البشرية والأضرار المادية. يذكر أن مواطني بورتوريكو هم مواطنون أمريكيون يحملون الجنسية الأمريكية بحكم القانون، رغم أنهم لا يستطيعون المشاركة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية من حيث الاقتراع. فالولايات المتحدة فرضت سيطرتها على بورتوريكو عام 1898 بعد الحرب الأمريكية الاسبانية، ومنحت الجزيرة صفة منطقة أمريكية. وبعد عقدين، أي في عام 1917، أقر الكونغرس الأمريكي حق المواطنين في بورتوريكو بأن يتمتعوا بكامل حقوق المواطنة الأمريكية.
وبعد انتهاء الإعصار، تبجح ترامب بأن أداء إدارته تجاه إعصار ماريا كان أفضل بآلاف المرات من أداء إدارة جورج بوش الابن المتقاعس تجاه إعصار كاترينا في ولاية لويزيانا عام 2005. يذكر أن إعصار كاترينا قد تسبب في موت قرابة ألفي شخصا، نتيجة لعدم توافر معدات الإنقاذ وبسبب عدم جاهزية الدوائر المعنية للتعامل مع كارثة من هذا النوع. فإدارة ترامب تبجحت أنه بفضل جهودها، لم يسقط في إعصار ماريا في بورتوريكو سوى أقل من 70 شخصا. ولكن دراسة نشرت نتائجها هذا الأسبوع, بينت أن عدد القتلى الذين تم إحصاؤهم حتى الآن قد اقترب من ثلاثة آلاف شخصا. هذا العدد يساوي تقريبا من سقطوا نتيجة لاعتداءات الحادي عشر من أيلول عام 2001 على مركز التجارة العالمي في نيويورك وعلى البنتاغون في واشنطن، ذلك الحدث الذي استغلته الولايات المتحدة لفرض عربدتها وغطرستها على العالم، بشكل عام، وعلى العالم العربي والإسلامي، بشكل خاص، ضمن ما يعرف بالحرب على الإرهاب.
ورغم أن الإعلام الأمريكي قد تطرق إلى هذه الفجوة المدوية بين الرقمين في أعداد الضحايا البشرية، إلا أنه لم يعر الأمر سوى اهتمام باهت وفاتر. ولا تكاد تسمع عن الموضوع شيئا في وسائل الإعلام الأمريكية في اليوم التالي بعد صدور الدراسة المتعلقة. وأما ترامب، فقد عاد ليشيد بجهود إدارته عندما سئل عن الموضوع.
ولو كان هذا التقصير في المحافظة على حياة البشر قد حدث في بلد آخر في العالم لا يروق للولايات المتحدة، لزلزلت الأرض من تحت أقدام قادته، ولتم تجريد مجتمعه من إنسانيته ولحشدت ضده أكثر أنواع الأسلحة فتكا وتدميرا.
فالولايات المتحدة تحلّل لنفسها ما تحرّمه على غيرها. وتستخدم حقوق الإنسان كوسيلة لتبرير تدخلاتها واعتداءاتها وإحكام سيطرتها. بينما هي لا تلتفت لكثير من أبسط القواعد الإنسانية لبعض مواطنيها، خاصة إذا ما كان لون بشرتهم داكنا كمواطني بورتوريكو.
فمن يعتقد أن الولايات المتحدة هي زعيمة حقوق الإنسان في العالم، عليه أن يراجع حساباته، ويعيد تشكيل معتقداته. ما يبرع فيه الإعلام الأمريكي، كالمؤسسة السياسية، هو عملية المنتاج لتبيان أن الولايات المتحدة هي الداعية الأولى لحقوق الإنسان في العالم، في الوقت الذي يمكن الإقرار فيه بأنها الداعية الأولى لحقوق الحيوان. ولو كانت الولايات المتحدة تعير حقوق الإنسان في العالم قدرا يسيرا من الاهتمام الذي تعطيه لحقوق الحيوان على أراضيها, لكان حال البشرية أفضل لكثير مما هو عليه الآن. ففي نهاية شهر حزيران من هذا العام، مثلا، انتاب الولايات المتحدة شعور بالحزن الشديد على وفاة كوكو. كوكو كانت غوريلا في إحدى المحميات في ولاية كاليفورنيا، وتوفيت عن عمر ناهز 46 عاما. وحسب الرواية المقدمة آنذاك، فأن كوكو تعتبر كائنا خاصا لأنها دُرّبت على استخدام لغة الإشارة للصم، وأتقنتها. المفارقة الغريبة هي أن ذلك قد حدث في ذات الوقت الذي تم فيه فصل أكثر من 2400 طفلا لاجئا عن أمهاتهم وآبائهم بينما كانوا يحاولون عبور الحدود الأمريكية من المكسيك، في ظروف أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها وحشية ومجردة بالكامل من أية مشاعر إنسانية.
فالانتقائية في التسليط على حقوق الإنسان هي الأساس بالنسبة للولايات المتحدة، بما ينسجم مع مصالحها، زمانا ومكانا. وما عدا ذلك، فان الآلة الإعلامية والمؤسسة السياسية بارعتان في تجريد المستضعفين من إنسانيتهم، وحتى من حقهم في الحياة الكريمة. وكل ما يذرف من دموع التماسيح حيال واقع حقوق الإنسان هنا وهناك ليس فيها من جدوى حقيقية.
بالتأكيد، لا يتسع المجال هنا لسرد الكثير من الأمثلة والوقائع التي تبيّن كيف أدارت الولايات المتحدة ظهرها لحالات صارخة تعرضت فيها حقوق الإنسان للهدر الكامل. ولكن صمت الولايات المتحدة، ومن ثم بكاءها المتأخر، على عمليات الإبادة الجماعية التي جرت في رواندا في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكذلك استخدام الاغتصاب ضد النساء المسلمات في البوزنا والهرزك في يوغسلافيا سابقا كأداة في الحرب، في نفس العقد، وأيضا في ميانمار الآن، لا يمكن القفز عنه. وأما تواطؤ الولايات المتحدة مع الاحتلال الإسرائيلي، بل وتمكينه من تعريض الشعب الفلسطيني لأفظع عمليات انتهاك حقوق الإنسان، فحدّث ولا حرج. وما قرار إدارة ترامب مؤخرا لوقف التزاماتها المالية السنوية لأكثر المنظمات الإنسانية استحقاقا، وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، إلا دليل جديد وقاطع على مدى ازدراء الولايات المتحدة لحقوق الإنسان. وما انسحابها من مجلس حقوق الإنسان إلا تتويج للنظرة، بل السياسة الأمريكية بهذا الخصوص.
فواقع الأمر هو أنه إذا ما كانت هناك مسحة إنسانية عند المواطن الأمريكي العادي، فان فظاظة وفظاعة ما يقوم القادة الأمريكيون وصناع القرار بارتكابه من انتهاكات وجرائم يجبّ كل ما عداه وينتج الولايات المتحدة التي يقودها ترامب اليوم، بكل من يحيطون به ممن يستغلون وجوده في الحكم، والذي يجعل من أي حديث عن حقوق الإنسان، حقا، مهزلة العصر.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/09/02