من شريعة الغلبة إلى الدولة المستقلة
يوسف مكي
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ألغت عصبة الأمم حق الفتح واعتبرته من الماضي، وأنهت مشروعية الغلبة كوسيلة لبناء الإمبراطوريات وتوسعها، على حساب حقوق الدول الأخرى
يعزو كثير من المفكرين فكرة الدولة المستقلة الحديثة، إلى اتفاقية ويستفاليا عام 1648، حيث توصل الأوروبيون بعد حروب طويلة، حصدت ملايين الأرواح، إلى استحالة كسب أي فريق للحرب، وأن استمرارها لن يؤدي إلا إلى المزيد من الفتك بالأرواح والممتلكات. ولهذا قرروا أن لا مناص من تحقيق تسوية تاريخية بين هذه الدول، تضمن الاعتراف لكل دولة بحدودها الخاصة، وبالنظام السياسي الذي تختاره، من غير تدخل من الدول الأخرى. وقد باتت هذه الاتفاقية الحجر الأساس، فيما بات معروفا، في عصرنا هذا، بالسيادة والاستقلال، وبحق الدول في اختيار نظمها السياسية، دونما تدخل من أية قوة خارجية.
لكن تتويج هذه المبادئ، واعتبارها جزءا لا يتجزأ من القانون الدولي، والعناصر الناظمة للعلاقات بين الأمم، لم يحدث إلا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وتدشين عصبة الأمم، التي ألغت حق الفتح، واعتبرته من الماضي، وأنهت مشروعية الغلبة كوسيلة لبناء الإمبراطوريات وتوسعها على حساب حقوق الدول الأخرى.
ووفقا للرؤية الجديدة، نظر إلى الدولة، باعتبارها بناء اجتماعيا فوقيا، مهمتها تدبير أمور الشأن العام، بما يكفل الأمن والتكافل بين مجموعة من البشر، تعيش على أرض مستقلة، بحدود معترف بها، وتحتفظ بحقوق قانونية، وتقبل الجماعة بسلطتها.
وفكرة الدولة في الأساس، هي نتاج تطور تاريخي، ارتبطت مقدماته بالمرحلة التي هيأت للثورة الصناعية. وهي جزء من سيرورة عصر الأنوار الأوروبي، وأساسها التبشير بنشوء دول حديثة، تقوم على قاعدة المساواة ورعاية الحقوق، وتنطلق من قيم وضوابط في الحكم والسيادة. وقد تبلورت عبر إسهامات متعددة من مصادر مختلفة في العلوم السياسية والاجتماعية، وكان لجورج هيجل وماكس فيبر وإميل دورخايم وآخرون فضل إرساء دعائمها النظرية.
أدت التطورات اللاحقة، وبشكل خاص قيام الثورة الفرنسية عام 1789، إلى تطوير مفهوم الدولة، من البعد السياسي إلى البعد الاجتماعي، حيث ربطت بمبدأ المواطنة، الذي يعتبر الهوية السياسية والقانونية قاعدة للعلاقة بين أعضاء مجتمع سياسي، وتستند المواطنة على مشتركات ثقافية.
ويربط الباحثون بين بروز هذا المبدأ، بنشوء نظام جديد في العلاقات الدولية، يوفر حماية قانونية، لحدود كل دولة، من خلال اعتراف الجيران، وبقية دول العالم بسيادتها، ضمن هذه الحدود، حيث يعيش المنتمون للدولة تحت خيمة الوطن الواحد، يتمتعون بذات الحقوق، ولا يعود للتشكيل الديموجرافي، أو الانتماء الديني، أو المذهبي أو القبلي، أو الإثني، قيمة تضفي تميزا في الحقوق على الآخرين. والمواطنة بهذا المفهوم، تعطي للاختلاف والتنوع شكلا إيجابيا، يضيف قوة إلى المجتمع ولا يأخذ منها.
انطلق الاعتقاد بأهمية وجود سلطة تنفذ القانون من اعتقاد راسخ بأن الطبيعة تقوم على الفوضى، وطغيان الأقوى، حيث تسود نزعات القوة والسيطرة والغضب، ويغيب التسامح والتعاون من أجل العيش المشترك. إن تأسيس السلطة السياسية هو الذي يتكفل بلجم نزعات القوة والسيطرة، ويصد البشر عن الاعتداء على بعضهم البعض. وشرط تحقق ذلك هو تدشين مؤسسات سياسية وقانونية، بعيدة عن هيمنة النزعات الفردية أو الفئوية. ويكون من مهامها تنظيم الحياة العامة، وحماية الملكية الخاصة وشؤون التعاقد، وأن يطبق القانون على جميع الناس بغض النظر عن مواقعهم وانتماءاتهم.
والأهم في هذه الدولة، هو تمثيلها لإرادة المجتمع، كونها تنبع من إجماع الأمة، وإرادتها المشتركة. فهي اتحاد أفراد يخضعون لنظام من القوانين، ويعيشون في مجتمع واحد، مع وجود قضاء طبق هذه القوانين، بإرساء مبادئ العدل. ويتحقق العدل، من خلال وجود سلطة عليا، تحمي حقوق المجتمع، أفرادا وجماعات، وتمنع أي نوع من الانتهاكات والتعديات عليها.
تستند الدولة الحديثة على مجموعة من العناصر، قوامها التسامح وقبول الآخر والمساواة بالحقوق والواجبات، وتؤسس هذه القيم لمبدأ الاتفاق، المستند على احترام القانون، وعلى السلام والعيش المشترك، ورفض العنف، وعلى القيم الإنسانية العامة، ورفض النزعات المتطرفة. ولا تستقيم الدولة المدنية إلا بشيوع مبدأ المواطنة، حيث يعرف الفرد بانتمائه للوطن، وليس لمهنته أو معتقده أو منطقته، أو ماله أو سلطته، وإنما يعرف قانونيا واجتماعيا بأنه مواطن، له حقوق وعليه واجبات، يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
يشير مفهوم المواطنة إلى المساواة والندية وتكافؤ الفرص، وإلى حقوق وواجبات الأفراد المنتمين إلى دولة ما، ينص عليها الدستور، وتصبح عنوان الهوية. وأول من قال بالمواطنة هو الفيلسوف الإغريقي أرسطو، الذي اعتبرها من أساسيات المجتمع المدني Civil Society واقتصرت ممارستها على أناس مؤهلين Qualified. استثنى أرسطو العبيد والنساء والبرابرة، من ممارسة المواطنة، باعتبارهم "غير مكتملين إنسانيا".
يؤسس القانون قيمة العدل، والثقافة قيمة السلام الاجتماعي، والمواطنة قيمة المساواة. لا تعادي الدولة العقائد أو ترفضها، فهي الباعث والمحرض على الصدق والإخلاص، والأخلاق والاستقامة والالتزام، والعمل والإنجاز والنجاح في الحياة. إن ما ترفضه هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، والاستغراق في تفسيرات تبعده عن عالم القداسة، وتدخل به إلى عالم المصالح الضيقة. ومن ثم فإن الدين ليس أداة للسياسة، وتحقيق المصالح، ولكنه طاقة وجودية وإيمانية تمنح الأفراد مبادئ الأخلاق وحب العمل.
وسيظل مفهوما المواطنة والدولة المدنية، مدخلين للولوج بقوة في الحداثة، والتماهي مع عصر كوني، سمته احترام الكرامة الإنسانية، والسعي نحو التقنية والمعرفة ودولة القانون.
الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/02/17