آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. هشام أحمد فرارجة
عن الكاتب :
أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية

أضحوكة القرن: ترامب بهلوان الأمم المتحدة


د. هشام أحمد فرارجة

من الطبيعي بمكان أن تتفق الدول أو تختلف، تتعاون أو تتباعد وتتحالف أو تتخاصم. معروف أن هذه الأنماط من السلوك تتلازم مع يوميات العلاقات بين الدول. وحتى عندما تنتقد الدول بعضها البعض، يحرص قادتها عادة على إتباع القواعد والأصول والأعراف الدبلوماسية قدر الإمكان. وفي أحلك اللحظات، تسعى الدولة المنتقِدة للبرهنة على هيبتها وحضورها، تماما كما أن الدولة التي تتعرض للنقد تعمل على الظهور بصورة الإباء والشموخ وعدم الاكتراث.

  ورغم أن الرئيس الامريكي، دونالد ترامب قد باعد بين الولايات المتحدة ومعظم دول العالم منذ توليه الرئاسة، بحكم سياساته الصدامية ورعونة سلوكه، إلا أن ما تعرضت له الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في اجتماعات جمعيتها العامة السنوية لهذا العام بسبب ترامب يعتبر أمرا غير مسبوق، بالفعل. فحتى عندما كان بعض الرؤساء الأمريكيين، مثل جورج بوش الابن، الأكثر استخفافا بالعالم، كانت الولايات المتحدة تحظى بمكانة متميزة على المسرح الدولي.

  لكن ترامب المشتت الذهن والمنسلخ عن الواقع قد عرّض بلاده لإهانة دولية لا يمكن للأجيال اللاحقة إّلا أن تستمر في تذكرها. فلم يمضِ على خطابه أمام الجمعية العامة أكثر من دقيقة، حتى انفجر الحضور بالضحك الساخر مما كان يقوله. فبالإضافة إلى البدء باستعراض انجازاته الهائلة، وكأنه ما زال متحوصلا في دعايته الانتخابية، ادّعى ترامب بأن ما أنجزه خلال مدة تقل عن العامين أعظم مما أنجزته أية إدارة أمريكية أخرى في التاريخ. هذه المقدمة التي لم تكن في مكانها، وهذا الغرور الذي لا تحده حدود دفع بزعماء العالم الحاضرين للاستهزاء بما قاله ترامب، والتعبير عن دهشتهم لما سمعوه بالضحك. ولأن ترامب منسلخ عن الواقع، ما كان بوسعه أن يقول إّلا أنه لم يتوقع ردة الفعل تلك، ولكنه سيستمر في الخطاب.

  وحقّا، تابع ترامب خطابه المتعثر المرتبك، يقلب الحقائق ويروّج المعلومات الخاطئة، ويخلط الحابل بالنابل. لم يكن أسلوبه في الإلقاء مثيرا أو مشوقا بأي شكل من الأشكال، بل طغت عليه الرتابة معظم الوقت. وبدلا من أن يعزّز الدور القيادي للولايات المتحدة كقوة عظمى، أسوة بأسلافه من الرؤساء، بدأ ترامب تبريريا لسياساته الانعزالية، ومدافعا عن مغالاته في الحمائية. وكعادته، راح يكيل المديح لبعض الخصوم التقليديين، ككوريا الشمالية، ويقذف بالانتقادات نحو بعض الحلفاء التاريخيين، كألمانيا. وبينما توعّد كوريا الشمالية بالدمار الشامل في خطابه أمام الجمعية العامة في السنة الماضية، بدا مهذبا وودودا في عباراته هذه المرة. وبدلا من صبّ جام غضبه عليها هذا العام، استحوذت إيران على تهديداته ووعيده، منذرا باندلاع حرب إقليمية-دولية مدمرة، بالفعل. وبدلا من طرح نظرة شمولية للعالم بما يعتمل فيه من قضايا وأحداث، شدّد ترامب على مركزية الإحادية والوطنية المتزمتة في تفكيره وسياساته، مهددا حلفاء الولايات المتحدة، طبعا باستثناء المدللة إسرائيل، بأن عليهم تحمل النفقات المالية مقابل تقديم الولايات المتحدة الحماية لهم، على حد قوله. وعلى ما يبدو، فأن هذا المنحى سوف يشكّل جوهر سياسة ترامب في المستقبل القريب، إذا ما قُدّر له أن يبقى في منصب الرئاسة.

  ولكن الملفت للانتباه هو أن الضحك الذي انفجر به قادة العالم على ما كان يقوله ترامب كان له ما بعده. فواضح أن الضحك لم يكن سخرية عابرة، وإنما تعبيرا عن غضب واستياء عميقين في نفوس أقرب المقربين للولايات المتحدة. فان لم يكن مفاجئا أن وجّه الرئيس التركي، الطيب رجب أردوغان شديد انتقاداته لسياسات ترامب الاقتصادية العقابية، ولاحتضان بعض الجماعات التركية المعارضة في الولايات المتحدة، وذلك بسبب الخلاف التركي-الأمريكي مؤخرا، إّلا أن الحدة التي ميّزت خطاب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون كانت جدّ لافتة. فماكرون لم يبقِ ولم يذر لترامب، مشرّحا كل فقرة في خطاب ترامب ومنتقدا إيّاه على كل ما طرحه، تقريبا. ولم يكن لافتا فقط مضمون ما قاله ماكرون، وإنما أيضا صلابته في أسلوب الطرح وقوة الأداء. فماكرون ذهب إلى حد التحذير من انهيار هيئة الأمم المتحدة، تماما كما حدث مع عصبة الأمم، بسبب مثل تلك الطروحات والسياسات التي تبناها ترامب، وأن كان لم يذكره بالاسم.

  يجب أن لا يغيب عن الذهن أن تركيا وفرنسا عضوان في حلف الأطلسي، الناتو. وإذا ما كان في خطاب هاتين الدولتين من إرهاصات، فأنها بالتأكيد تؤشر على اقتراب حدوث تصدّع حقيقي في هذا الحلف الذي شكّل أحد أهم أركان النظام الدولي المنبثق عن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ومن المضحك المبكي أكثر من ذلك لعموم الرأي العام الأمريكي أن ترامب ليس بوارده أي من هذه الانعكاسات أو التفسيرات. ففي مؤتمر صحفي له في اليوم التالي لخطابه أمام الجمعية العامة، عقّب ترامب عندما سئل عن ضحك قادة العالم، بالقول أنهم كانوا يضحكون معه، وليس عليه، وأن التغطية الإعلامية كانت خاطئة. وعوضا عن محاولة تقديم تفسيرات مقنعة لبعض ما قال، ظهر ترامب بمظهر المتبجح المتعجرف، الذي لا يعير أدنى اهتمام لضرورة الاحتكام للمنطق في التحليل والحوار.

  المهم في الأمر أن هذا الصلف الذي صبغ تصريحات ترامب ومواقفه أمام العالم يشكّل عنوانا بارزا لما يضمره من أفكار ولما يرغب في تسويقه من سياسات تفكيكية للمنظومة الدولية كما هي عليه الآن. ولا شك أن إشاعة مثل هذه الأجواء في العالم تسرّع من إمكانية إقدام لاعبين جدد على إعادة تشكيل النظام الدولي برمته، بما فيه الأمم المتحدة نفسها، خاصة في ظل تنامي الاستياء الدولي بسبب محاولات الولايات المتحدة للتحكم بمجلس الأمن كيفما تشاء.

 أستاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية

صحيفة رأي اليوم

أضيف بتاريخ :2018/09/30

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد