رجل الحسبة لا يحاسب
شافي الوسعان
الحسبة تنطلق أساسا من الإخلاص والرحمة والإشفاق والستر، بينما نجد بعض أعضاء الهيئة -وليسوا كلهم- يغلب عليهم طابع الغلظة والشدة والقسوة والتسلط والتشهير بالناس
من الواضح أن الناس إزاء الهيئة منقسمون بشكل حاد جدا، فهم بين ساخط مسرف في السخط، وراض مغرق في الرضا، فالساخطون يعتقدون أن ما تقوم به الهيئة لا علاقة له بالحسبة، بل هو استخدام للدين في جلد الناس، اعتمادا على تأويلات فاسدة وفتاوى وأفهام متشددة، بينما يعتقد الراضون أن رجال الهيئة لم يفعلوا أكثر من تطبيق ما أُسنِد إليهم من مهام، وأن الحملة المسعورة ضدهم هدفها تقويض هذه الشعيرة وإشاعة الفساد بين الناس، وأنا وإن كنت أميل إلى أصحاب الرأي الأول فإني ألتمس العذر لأصحاب الرأي الثاني، وسأبين ذلك في ثنايا المقال.
قد يَعجَب البعض أن تتكرر حوادث الهيئة، مع أنه لو أنصف لكان عليه أن يعجب فيما لو لم تتكرر، فإن من الجنون أن تسير بذات الطريق فتتوقع نهايات مختلفة، وحتى أكون واضحا فإني أعتقد أننا نخادع أنفسنا حين نتعامل مع أخطاء الهيئة على أساس أنها أخطاء فردية، بينما هي في الواقع أخطاء منهجية فكرية، وأي محاولة لإنكار ذلك تعني أننا سوف نعاود الدوران حول أنفسنا.
ما كُتِبَ عن الحسبة في الإسلام مختلف تماما عما هو معمول به حاليا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالحسبة تنطلق أساسا من الإخلاص والرحمة والإشفاق والستر، بينما نجد بعض أعضاء الهيئة -وليسوا كلهم- يغلب عليهم طابع الغلظة والشدة والقسوة والقهر والتسلط والتشهير بالناس، إلى درجة أنك تشعر بأن بعضهم قد وجد في الهيئة ضالته، من أجل تلبية نوازعه الانتقامية، بدليل أن الرئيس السابق للهيئة الدكتور عبداللطيف آل الشيخ حين حاول ضبط سلوكهم وتعديل مسارهم، قوبل بحملة تشويه واسعة، وصلت حد التهديد والأذى. وعلى الرغم من أن الحسبة في الإسلام تشترط أن يكون المنكر موجودا في الحال، ظاهرا، معلوما كونه منكرا بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل اجتهاد فلا حسبة عليه. كما أن نظامها هو أبعد ما يكون عن سوء الظن، حتى جاء في الحديث الشريف: (وإذا ظننت فلا تحقق) أي: لا يدفعك الظن السيئ إلى محاولة إثباته. وقد قال حجة الإسلام الإمام الغزالي: (ولا يجوز للمحتسب أن يقول للشخص أرني لأعلم ما فيه فإن هذا تجسس)، وفي نفس هذا المعنى يقول أقضى القضاة العلامة الماوردي: (فمن سمع أصوات ملاه منكرة.. من دار تظاهر أهلها بأصواتهم، أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليهم بالدخول، لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عما سواه من الباطن).
أقول على الرغم من ذلك كله؛ فإني أدعو الإخوة القراء إلى أن يقارنوا ما ذُكِر أعلاه بحوادث الهيئة الأخيرة، وما اعتادوا على رؤيته من بعض الإخوة المحتسبين من ممارسات بعضها يندى لها الجبين، كتلك التي كشفت عنها صحيفة مكة قبل أشهر من محاولة استدراج بعض أعضاء الهيئة للضحايا، من خلال تقمصهم أدوارا غير لائقة وعبر صور إباحية وخليعة، ليعرفوا أن خلاف الناس مع الهيئة ليس خلافا مع الحسبة، بل هو خلاف من أجلها؛ سببه أنهم ليسوا متأكدين أن ما تقوم به الهيئة هو من الحسبة في شيء، وهم لا يرضون أن تُلصَق تلك الأعمال بالدين حفظا لمكانته العظيمة في النفوس، ومنعا للناس من الفتنة في دينهم، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ: (أفتان أنت يا معاذ..)، لمجرد أنه أطال في الصلاة، فماذا عسانا أن نقول لمن طارد وتجسس وانتهك الأستار، وفضح وشَهَّر وأساء الظن بالناس باسم الله! فيا أخي الكريم كما لا يعجبك أن يمثِّلك شخص يسيء إلى سمعتك ومكانتك وقدرك بين الناس، فكيف تريد من الله أن يرضى عنك وأنت تقوم بكل هذه الأعمال ثم تنسبها إليه! فالله تعالى قد قال: (ولا تجسسوا) وأنت قد تجسست، والله تعالى قال: (وأتوا البيوت من أبوابها)، وأنت قد تسورت البيوت، واستدرجت الشباب بالمقاطع والصور، فما تركت فرصة لأحد كي يستتر بذنبه، والله تعالى قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها)، وأنت تفاخر بمداهمتك البيوت وهتكك أستار الناس، كما أن الله تعالى قال: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم)، وأنت قد استوقفت الناس في الأماكن العامة لتسألهم عن صلة القرابة التي تربطهم، أو قمت بتفتيش جوالاتهم!
يجب التأكيد على أن مشكلة الهيئة ليست شخصية، وإلا فأي عمل بشري يشوبه بعض النقص الناتج عن سوء التطبيق، ويمكن معالجة ذلك بمعاقبة الموظف أو فصله بحسب نوع المخالفة، لكن مشكلة بعض أفراد الهيئة هي في الأساس فكرية، ناتجة عن سوء فهم لمعنى الحسبة، بسبب الأخذ بآراء شاذة وفتاوى غريبة تناقض صحيح النقل وصريح العقل، بدليل أن الأخطاء تتكرر باستمرار، ولا تلقى معارضة تذكر من السواد الأعظم من المحسوبين على أهل الدين، كما أن كثيرا من الدعاة والوعاظ ممن يتابعهم الملايين على شبكات التواصل الاجتماعي دأبوا على تبرير أخطاء الهيئة والوقوف إلى صف أعضائها مصيبين كانوا أو مخطئين، وإذا ما تم التحقيق مع أحدهم نظروا إلى ما أصابه على أنه ابتلاء، موصين إياه بالصبر على الأذى في سبيل الله!، وإن أخشى ما أخشاه أن يكون إخواننا وغيرهم؛ ما زالوا يأخذون بتلك الفتوى القائلة بعدم جواز مقاضاة أعضاء الهيئة، ولا سماع دعوى ضدهم! فالواقع يشي بذلك مع الأسف الشديد، ولذلك فإنه لا أمل في تحسين أداء الهيئة ما دمنا نتعامى عن هذه الحقائق، وما بقيت الهيئة جهة قبض حالها كحال بعض الجهات الأمنية، مع أن ذلك يتناقض مع مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/02/19