روسيا سيدة الموقف
طراد بن سعيد العمري
روسيا تضطلع اليوم بكامل ملفات الشرق الأوسط، ومعنية ببؤر التوتر في المنطقة التي خلقتها الولايات المتحدة والغرب، مما يعني أنها تملك من أوراق الضغط ما يمكّنها من تسيد الموقف في الشرق الأوسط.
نجح الرئيس بشار الأسد في اختيار حلفائه وأصدقائه الذين لن يتخلّوا عنه وقت الأزمات، أو يبيعوه ضمن صفقات أو مقايضات دولية، وأثبتوا استعدادهم للوقوف معه ومع بلاده وشعبه حتى النهاية. هذا ما فعلته روسيا منذ بداية الأزمة في سوريا مما رفع من قيمة الصداقة والتحالف مع روسيا للمدى الطويل. وذلك على العكس من التحالف مع الغرب، وتحديدا الولايات المتحدة، التي تتنكر لأصدقائها وحلفائها مع أول هبة من رياح التغيير الداخلي أو الخارجي. جاء التدخل العسكري الروسي في سوريا، لحماية الدولة والشعب والنظام والرئيس ومساعدة الجيش العربي السوري في حربه ضد خصومه من الدول والمجموعات الإرهابية، وهو حسنة روسية يجب على الحكام العرب خصوصا، ودول العالم الثالث، أن يستفيدوا منها والبدء في التقارب مع روسيا الجديدة.
أثبتت روسيا أنها سيدة الموقف في سوريا، فخلال اجتماع ميونيخ، بدا ذلك واضحا في تلعثم وزير الخارجية الأميركي وصلابة وزير الخارجية الروسي. تطوير مصطلح “وقف إطلاق النار” إلى وقف “الممارسات العدائية” الذي أصرّت عليه روسيا، له دلالاته القانونية والسياسية، مما يعني لجم تركيا ومحاولاتها استفزاز الوضع في الشمال السوري بعد تصريح السعودية باستعدادها لإرسال قوات برية.
فتركيا تعيش في مأزق سياسي حقيقي، وليس من المتوقع أن تنقذها من مأزقها استضافتها لعدد من الطائرات المقاتلة السعودية في قاعدة “أنجرليك” الجوية. فبعد أن فشلت تركيا في الإطاحة بالرئيس والنظام في سوريا، وبعد تمرير وتمويل الأفراد والمجموعات الإرهابية إلى الداخل السوري، جاء التدخل العسكري الروسي ليقلب السحر على الساحر، مما أدى إلى انكماش القرار الاستراتيجي التركي، ولم يبق لها إلا التعامل مع ورقة اللاجئين لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية في قضايا الأكراد والمنطقة العازلة، ووعود بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأمنية برفع العقوبات الاقتصادية التي فرضتها روسيا.
توقع البعض بأن استعداد السعودية لإرسال قوات برية لمحاربة الإرهاب في سوريا، يعني اجتياحا لقوات سعودية وعربية للأراضي السورية، وربط البعض بين تلك التصريحات ومناورات “رعد الشمال”، وهذا فهم خاطئ وتفكير بالتمني لدى البعض وفي مقدمتهم “الأخونجية”. فالسعودية ربطت مشاركتها بالقرار الأميركي لأنها تعلم قبل غيرها:
1 - استحالة ذلك من الناحية التكتيكية واللوجستية والاستراتيجية والسياسية.
2 - إحراج الإدارة الأميركية بعد تبرير عدم جديتها في عدم وجود قوات برية.
3- أن أميركا لن تتورط في حرب برية مع نهاية حقبة باراك أوباما الذي التزم بأن يخلو عهده من الحروب.
4 - في حال تطوّرت الأحداث أن تضمن السعودية مظلة دولية قوية لعدم خروج الأمر عن السيطرة.
5 - أنه من المستحيل على القوات الأميركية التورط في الميدان السوري المختلط والمعقد، خصوصا بعد التدخل العسكري الروسي وهيمنة روسيا على الحل العسكري والسياسي في سوريا. ولذا فالتصريح السعودي هو ورقة سياسية كما سبق وأن جادلنا.
يضاف إلى ذلك، أن التدخل البري لا يمكن أن يتم إلا بتحقق أحد أمرين: الأول؛ قرار أممي تحت البند السابع لاجتياح سوريا وهذا من المستحيل. والثاني؛ التنسيق مع روسيا والحكومة السورية وعندها تصبح أي قوات برية ليست إلا فرقا تابعة للجيش العربي السوري. ما عدا ذلك هو إشعال فتيل حرب عالمية ثالثة. فلو افترضنا دخول قوات برية عربية غير مصرح لها فستكون هدفا للضربات الجوية الروسية والسورية، ولو افترضنا، أيضا، أن القوات البرية التي تدخل من الأراضي التركية تملك وسائل للحماية الذاتية مثل الصواريخ المضادة للطائرات كما هو متوقع، فإن إسقاط مقاتلة روسية سيغير من قواعد الاشتباك، وينقل المسرح الميداني إلى مرحلة خطيرة لا يمكن التنبؤ بنتائجها.
لم يستوعب الكثير من حكام العرب التحولات العالمية وميل الكفة تجاه الشرق والدور الروسي في قيادة العالم وتحالفاته السياسية والاقتصادية مع دول “البريكس″، وتناقص الدور الأميركي، وتضعضع دور الاتحاد الأوروبي. ولذا كان التدخل العسكري الروسي في سوريا مبنيا على أرضية صلبة تحتمل حتى مقارعة الولايات المتحدة وحلفائها، أو إقناعهم، إن أرادوا، بوجهة النظر الروسية، وقبول الريادة والقيادة الروسية في مناطق إستراتيجية تخدم روسيا ومصالحها. لم تلعب روسيا الورقة السورية للمزايدة أو إجراء مقايضات كما يفعل الغرب، بل جاءت روسيا بجديّة سياسية وعسكرية لتوقف التضليل والعبث الأميركي في الشرق الأوسط.
يحاول الإعلام العربي المناوئ لسوريا، تصوير المشهد الروسي في سوريا على أنه احتلال عسكري لدولة عربية وإسلامية، مستفيدا مما علق بذاكرة المتلقي العربي من ذكريات “الغزو السوفييتي” لأفغانستان قبل ثلاثة عقود وتهييج “العرب الأفغان” حينذاك ضد الدولة الملحدة، بدليل أن الولايات المتحدة العجوز أنشأت تحالفا دوليا لمحاربة الإرهاب في العراق وسوريا واستمرت طلعاتها الجوية الفاشلة قرابة عام، ولم يصوّر الإعلام العربي ممارسة أميركا على أنها احتلال، وكأن قدر الشرق الأوسط أن يبقى محكوما بالآلة العسكرية والمصالح السياسية للغرب وأميركا إلى الأبد. لكن روسيا قررت أن تفضح السياسة الأميركية في زعمها محاربة الإرهاب، وتدخلت عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لإثبات وجودها كفاعل يحسب له ألف حساب في اللعبة الدولية.
كان البيت الأبيض وواشنطن محجا دائما للقادة العرب وكأنهم يحصلون على البركة من سيد البيت الأبيض ويتلمسون توجهات وتوجيهات الساسة في واشنطن. لكننا شهدنا في السنوات الأخيرة أن خط سير رحلة القادة العرب بات يمر عبر الكرملين وموسكو، مما يؤكد زعامة روسيا ووقوفها على قدم المساواة مع الولايات المتحدة، بل إننا نذهب إلى أكثر من ذلك في أن موسكو أثبتت صدقها وشفافيتها وجديّتها مع حلفائها وأصدقائها بالفعل، وليس بالقول والمعايير المزدوجة التي تحمل الظاهر والباطن، والمعلن والخفي. فالزعامة الروسية تجيء بعد عقود من المعرفة الحقيقية والعلاقة مع الشعوب والحكام والساسة والسياسة العربية، وتخلل تلك العلاقة النجاح والفشل منذ بداية القرن الماضي. ولذا تعود روسيا بعد تراكم معرفي بالمنطقة، وتطوير تقني لترسانتها العسكرية، وتحديد لمصالحها الإستراتيجية، وتحديث لأساليبها الدبلوماسية ووسائلها السياسية.
تضطلع روسيا اليوم بكامل ملفات الشرق الأوسط، ومعنية ببؤر التوتر في المنطقة التي خلقتها وخلفتها الولايات المتحدة والغرب، مما يعني أنها تملك من أوراق الضغط ما يمكّنها من تسيّد الموقف في الشرق الأوسط. الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان ملفا حصريا للغرب والإدارة الأميركية بات جزءا منه في يد موسكو، وهذا هو المعيار الرئيس في تقييم قوى التأثير في المنطقة، بالإضافة إلى العلاقات مع إيران وتركيا ترغيبا وترهيبا. من ناحية أخرى، نجد أن روسيا ذات تأثير بالغ في ملفات اليمن وليبيا والعراق وسوريا، وحتى ملف أفغانستان في أطراف الشرق الأوسط الكبير. ولذا يتوجب على العرب إعادة التفكير في أسلوب التعامل مع روسيا، وقبل ذلك أخذ وجهة النظر الأميركية بقليل من الملح، كما يقول المثل الغربي.
أخيرا، نشر منظومة الصواريخ الدفاعية (S400) في سوريا، وإرسال طائرات السوخوي المتقدمة الاعتراضية والقاذفة، مع منظومات الدعم الأخرى، رسالة قوية وجديّة تقول إن روسيا جاءت إلى سوريا لدعم سوريا الرئيس والنظام والشعب والدولة، ولتغيير معادلة التحالفات في الشرق الأوسط، ووقف الفوضى الخلاقة التي زرعتها الولايات المتحدة لتغيير الأنظمة في هذا الجزء المضطرب من العالم. إزاحة الرئيس العراقي والليبي واليمني لم تورث سوى الدمار والخراب في العراق وليبيا واليمن، ولن تقبل روسيا بأن يندرج ذلك على سوريا أقوى حلفائها في المنطقة.
ختاما، ننصح أصدقاء ومحبي الشعب السوري الحقيقيين من العرب أن يستمعوا إلى صوت المنطق والعقل والقوة الروسي، ويجبروا المعارضة على القبول بأي حل يقدم لهم من دون فذلكات إعلامية وشروط مسبقة.
العرب
أضيف بتاريخ :2016/02/19