ازدواجية المعايير العربية بين خاشقجي واحد و25 مليون يمني!؟
د. وفيق إبراهيم
لا يزال الأميركيون والأوروبيون مصابين بعمى سياسي يمنعهم من رصد جرائم السعودية والإمارات التي قتلت حتى الآن عشرين ألف يمني معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين… إلا أنّ هذا العمى لم يمنعهم من اكتشاف طريقة سرية ومعقدة، اغتالت فيها المخابرات السعودية بأمر من ولي العهد محمد بن سلمان الصحافي جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده السعودية في مدينة اسطنبول التركية.
لا بأس من الإشارة إلى أنّ إبادة ألف شخص من مشاركين مدنيين في مجلس عزاء يمني ومئات الطلاب في حافلات مدرسية ومدنيين في قراهم ونساء كن يبحثن عن مياه لإرواء ظمأ عائلاتهن، هم من بين آلاف ضحايا القصف الجوي السعودي والإماراتي الذي لم يتوقف منذ بداية العدوان على اليمن قبل سنوات ثلاث ونيّف، مدمّراً أيضاً آثاراً لحضارات إنسانية تكشف العمق التاريخي المتقدّم لليمن السعيد.
العالم بأسره، وبمن فيه كامل أعضاء مجلس الأمن لا يرى ما تلحقه المجزرة السعودية ـ الإماراتية المتواصلة بحالة جوع عام تصيب أكثر من 15 مليون يمني وانتشار أمراض السرطان والكوليرا والطاعون والتيفوئيد التي أصابت ملايين اليمنيين وتمنع الرياض وأبو ظبي عنهم حق الطبابة والدواء بدم مجرم بارد.
وإذا كان اليمنيون شعباً جباراً يأبى الصراخ من حدة الألم والقهر، فهذا ليس سبباً «لتعامي» العالم الغربي عن مآسيه.
فكيف يمكن لأوروبا قاطبة أن تستنكر اغتيال الخاشقجي ولا تفعله في قضية اليمن، ما يدلّ على وجود عمى سياسي في الحالة اليمنية مغطى بالمال السعودي وقوة إبصار سياسية غريبة في الحالة الخاشقجية، وبمفعول أميركي واضح. فالحرب السعودية ـ الإماراتية على اليمن تتمتع بتغطية أميركية ـ سياسية وعسكرية، فرضت على أوروبا والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان والهيئات الدينية الكبرى والصليب الأحمر صمتاً كبيراً أدرك حدود التعامي وصولاً إلى مرحلة تحميل أنصار الله والجيش اليمني مسؤولية المجازر. فبالله كيف يقتل المرء نفسه أو أهله؟ هذه هي ازدواجية المعايير الغربية، فهل يشكل انكشاف اغتيال الخاشقجي من قبل ولي العهد ومخابراته، فرصة لانبثاق حالة وعي غربية في قراءة الغزو الخليجي لليمن، وهل يؤدّي هذا الانكشاف إلى تباين أميركي ـ أوروبي؟ أم قد تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى إجراء تعديلات بنيوية على وكلائها السعوديين الذين كلفتهم بإدارة الخليج؟ فتُضطر إلى تغيير محمد بن سلمان، بآل سعودي آخر.. على قاعدة التبرّؤ من الخسائر السياسية التي تسبَّب بها في سورية والعراق واليمن ولبنان، بالإضافة إلى تراجع الدور السعودي عموماً في كامل العالم الإسلامي والعربي؟
وهذا قد يشجع الأوروبيين على سحب تأييدهم للحرب الإجرامية على اليمن ضاغطين باتجاه فرملة أميركية لمشاريع الهيمنة بالقوة العسكرية ـ الإجرامية. وهذا يزيد من درجات ضغطهم على آل سعود ليقبلوا بترك فئات اليمن السياسية والجهوية لتتفاوض على حلّ سياسي برعاية الأمم المتحدة..
وهذا ينتج وقفاً فورياً للهيمنة السعودية ـ الإماراتية على جنوب اليمن، حيث المواقع البحرية الاستراتيجية وإمكانات وجود الغاز والنفط.. ويُلغي مشاريع الرياض بضمّ بعض المحافظات اليمنية إليها، وإنشاء خطوط نقل من مناطق سعودية قريبة نحو الجهة اليمنية من البحر الأحمر.. كما يدمّر طموحات الإمارات باستغلال اليمن سياحياً وجيواستراتيجياً واقتصادياً ووضع باب المندب وبحر عدن وسقطرى وواجهتها نحو المحيط الهندي في خدمة الجيوبولتيك الأميركي الذي يصبح بموجب هذا التخطيط على تنظيم حركة المرور البحرية بين الخليج وإيران والعراق والعالم بما يخدم مصالحه الجيوبوليتيكية والاقتصادية، ويؤدي دور شرطي مرور متمكّن في هذه النقاط التي تمسك بأكثر من 20 في المئة من تجارة العالم.
بأي حال، أن لاغتيال الخاشقجي تداعيات خطيرة على السياسة السعودية الخليجية والإقليمية، بما يفرض وبالإكراه تغييراً عميقاً في الحرب السعودية ـ الإماراتية على اليمن.
وهذا لن يأتي بطيب خاطر من نظام أبو ظبي والرياض، بل يَرد كنتاج لثلاث مسائل، الصورة الإجرامية الكبيرة للسعودية الموجودة دائماً، لكنها تعمّمت بعد اغتيال الخاشقجي بما لم يعد بالإمكان الدفاع عنها.
والسبب الثاني يرتبط بصمود شجعان اليمن وتحقيقهم وبإمكاناتهم المتواضعة، توازناً قوياً مع الجيوش الغازية، وهذا أدّى إلى انحسار المعارك في الساحل الغربي، حيث لقي السعوديون والإماراتيون هزائم عسكرية متواصلة، وفي أعالي صعدة عند جيزان ونجران التي تشهد اقتحامات من أنصار الله والجيش اليمني لقرى في الجانب السعودي، أما الثالث فانتفاضات السكان في جنوبي اليمن المتصاعد ورفضاً لما يسمّونه الاحتلال السعودي ـ الإماراتي.
إن اجتماع هذه العناصر الثلاثة بمواكبة تغييرات دولية متتالية، يؤسّس حكماً لوقف قريب للاجتياح السعودي لليمن.
فإذا كان محمد بن سلمان قادراً على إقناع الأميركيين باستمرار دوره السعودي، وذلك بتسييل 3000 آلاف مليار دولار جديدة من الصندوق السيادي لشركة أرامكو السعودية ووضعها في خدمة صفقات مع الشركة الأميركية، فهذا ينفع الأميركيين الذين يعتقدون أنّ هذا التسييل يؤدّي إلى رفع أسهم البورصة الأميركية 8 في المئة ابتداء من اليوم الإثنين وإعطاء فرص عمل جديدة لنحو 3 ملايين أميركي.. وهذا كما يبدو هو ثمن التغطية الأميركية على جريمة الخاشقجي السعودية.
فهل بإمكان السعودية أن تتكبّد صفقات بمثل هذه الضخامة مع أوروبا وتركيا وروسيا والصين؟ بعد انفضاح اغتيالها للخاشقجي؟
هذا ما يؤكد أنّ حرب اليمن ذاهبة نحو مفاوضات سياسية بين أطرافها الداخليين وعلى حساب تراجع الدور السعودي ـ الإماراتي.
ولن يطول أمر هذا التحوّل لأنّ اليمنيين ينتظرون وأياديهم على الزناد، وفي الجبهات يقاتلون حتى النصر ضدّ هذه الهمجية الأميركية السعودية «الإسرائيلية» من دون كلل أو ملل وبإحساس النصر القريب.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/10/22