من التحالف إلى التقاطع
وليد شرارة
ختمت تغريدات الرئيس دونالد ترامب الساخرة من معدلات الشعبية المنخفضة للرئيس إيمانويل ماكرون ما اصطلح على تسميته الإعلام الغربي «قصة الحب الأخوية» (Bromance) بين الرجلين. لقد جهد ماكرون لمحاولة المحافظة على أفضل الصلات الشخصية مع ترامب، على الرغم من التباينات والخلافات السياسية بينهما حول ملفات دولية حساسة كاتفاقية باريس للمناخ والاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني ومعاهدة الصواريخ المتوسطة المدى، على عكس المسؤولين الألمان مثلاً، الذين ساءت علاقاتهم الشخصية معه بسبب الخلافات حول هذه الملفات وغيرها. لم تنجح العلاقات الشخصية الجيدة في كبح جماح غضب الرئيس الأميركي من تصريحات نظيره الفرنسي عن ضرورة تشكيل جيش أوروبي لحماية القارة العجوز «من الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة». وبمعزل عن إمكانية أن تكون هذه التصريحات تمهيداً لقرار سياسي فعلي في المضي بخيار من هذا القبيل، وهي إمكانية يعززها موقف المستشارة أنجيلا ميركيل الأخير المرحّب بالفكرة، فإن ما تكشفه هو بداية أزمة ثقة حقيقية داخل «الحلف الأطلسي»، الموروث من الحرب الباردة، شديدة الارتباط بالتحولات التي طرأت على العلاقات الدولية في العقدين الأخيرين وعلى طبيعة التحالفات التي باتت تعقدها الدول وحتى الجماعات غير الدولتية. العلاقات الدولية المتحولة تزخر بالاتجاهات المتناقضة، لكن إحدى أبرزها هي الانتقال من التحالفات الثابتة والحصرية بين اللاعبين على الصعيد العالمي إلى التقاطعات الظرفية والمتغيرة بين بعضهم البعض. إدراك هذا الواقع المستجد يكتسب أهمية خاصة بالنسبة إلى دول وشعوب الجنوب لما قد يتيحه من فرص لتوسيع هوامش حركتها ولاستغلال التناقضات المتزايدة بين القوى الكبرى القديمة والصاعدة.
«فضل» المحافظين الجدد
قد تكون الحسنة الوحيدة لوزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد رامسفيلد، تحت تأثير المحافظين الجدد الكثر بين مستشاريه وضمن فريقه، هي قيامه بتقديم أول استشراف للطبيعة المتغيرة للتحالفات بين الدول من موقعه في دائرة صنع القرار في الولايات المتحدة آنذاك: «ليس هناك تحالف واحد بل تحالفات. الأمم تقوم بما تقدر عليه والبلدان، تساعد كما تريد... هذه هي المقاربة التي ينبغي تبنيها. الأسوأ هو أن تحدد التحالفات طبيعة المهمات، والمطلوب هو أن تحدد كل مهمة طبيعة التحالفات». قيل هذا الكلام قبل الحرب على العراق عام 2003 وأظهر الانقسام في الموقف منها بين دول أعضاء في حلف «الناتو»، فرنسا وألمانيا من جهة، والولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وآخرين من جهة أخرى، مدى دقته. تقاطع البلدان مع روسيا في معارضة الحرب وحاولا معها على الجبهة السياسية والدبلوماسية عرقلتها واقتراح بدائل للجوء إلى القوة، لكن جهودهم باءت بالفشل. كانت المرة الأولى التي يتأكد فيها بجلاء تناقض المصالح الوطنية بين دول «الناتو» في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. التحولات الكبرى التي شهدتها موازين القوى الدولية السياسية والاقتصادية منذ تلك الحقبة، ومن سماتها الأبرز صعود دور لاعبين جدد غير غربيين وتراجع الهيمنة الأميركية نتيجة تضافر وتفاعل جملة عوامل بنيوية، ووصول ترامب وفريقه إلى السلطة في واشنطن ونيته المعلنة بالتحلل من «قيود» معظم المعاهدات والاتفاقيات والمؤسسات والتحالفات التي استند إليها «النظام الدولي الليبرالي» كما يسميه منظروه، هي معطيات جديدة سيكون لها تداعيات حاسمة على كيفية صياغة الدول لتحالفاتها. لم يعد تشابه النظم السياسية ولا المصالح المشتركة «الطويلة الأمد» أو الخطاب الأيديولوجي عن القيم المشتركة تؤسس لتحالفات راسخة وحصرية. الولايات المتحدة، وكذلك روسيا والصين تميل بشكل متزايد لاعتماد مبدأ التحالف أو التقاطع حسب المهمة أو المصلحة في سياساتها الخارجية. يجد الأوروبيون أنفسهم كالأيتام في السياق الدولي الراهن، ما يفسر كلامهم المتواتر عن ضرورة العودة إلى بلورة سياسة خارجية ودفاعية مشتركة. تكثر الأمثلة التي تبرهن أننا أمام اتجاه ثقيل وعميق سيعيد صياغة العلاقات الدولية.
التقاطع والصراع
أحد الأمثلة البارزة على هذا الاتجاه الجديد هو العلاقات الألمانية ــــ الروسية. لم يكن خافياً على أحد في العقود الماضية أن ألمانيا كانت من أكثر الدول الأوروبية حماسة للحفاظ على «الأطلسي» وعلى المظلة النووية الأميركية لأنها كانت تعتبرهما العاملين الرئيسيين في حمايتها من التهديد السوفياتي ومن بعده الروسي وفي تأمين الشروط المناسبة للتفرغ لتطوير قدراتها الاقتصادية المتعاظمة.
من الممكن الزعم بأن العلاقات الألمانية ــــ الروسية شهدت انطلاقة جديدة في عهد إدارة بوش الابن وأنها بدأت تتحسن باطراد، على الرغم من تأزمها الظرفي بسبب الأزمة الأوكرانية، إلى أن وصلنا إلى مشروع السيل الشمالي 2. يشكّل هذا المشروع تحولاً نوعياً في مسار هذه العلاقات، إذ إنه يؤسس لشراكة مديدة بين البلدين ينجم عنها اعتماد متصاعد لألمانيا على الغاز الروسي الذي سيصلها من أنبوب يعبر بحر البلطيق من دون المرور بأراضي دول حليفة للولايات المتحدة. سيفضي هذا المشروع، الناجم أولاً عن قرار سياسي وليس عن اعتبارات اقتصادية، إلى توسع قاعدة المصالح المشتركة بين البلدين وإلى تمايز ألماني عن الاستراتيجية الأميركية المعادية لروسيا، ما يثير حنق ترامب المنقطع النظير تجاه ميركل.
مثل آخر هو العلاقات التركية ــــ الأميركية التي يصفها ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، بـ«زواج من دون حب». ما زالت تركيا دولة عضواً في «الناتو»، لكن الأميركيين أضحوا ينظرون إليها باعتبارها حصان طروادة محتملاً نتيجة تقاربها المتزايد على المستويات السياسية والاقتصادية مع روسيا أولاً ومع إيران ثانياً. دخلت تركيا في مسار سياسي لحل الأزمة السورية مع البلدين المذكورين، على الرغم من المعارضة الفعلية للولايات المتحدة لذلك، وهي لم تتورع عن الاتفاق مع روسيا على شراء منظومة S400 الصاروخية، على الرغم من غضب إدارة ترامب وعلى الإعلان عن رفضها للعقوبات الأميركية على إيران. نحن أمام زواج بلا حب يندفع فيه الزوجان نحو المزيد «من العلاقات الغرامية» خارج إطاره كالعلاقات الوثيقة التي باتت تجمع الأميركيين بالأكراد في الشمال السوري. مصلحة «الزوجان» إلى الآن هي الحفاظ على المظاهر، ولكن من الصعب توقع مآلات هذا الوضع في المستقبل.
مثال أخير هو علاقات الصين بالأطراف الإقليمية المتصارعة في المنطقة. للصين علاقات من الممكن اعتبارها استراتيجية مع إيران، والسعودية وإسرائيل. المسؤولون الصينيون يعترفون بأن الحفاظ على هذه العلاقات وتطويرها حيوي بنظرهم، وبأن أسوأ الكوابيس بالنسبة إليهم هو اضطرارهم إلى الاختيار بين أحد هؤلاء «الشركاء» على حساب الآخر، وأن المواجهة المستعرة بينهم لا تمنع الصين من التقاطع مع كل طرف منهم على حدة في مجالات محددة. هناك الكثير من الأمثلة الأخرى عن هذا التحوّل العميق في طبيعة التحالفات في عالم لم تعد مزاعم الدول فيه عن التزامها مبادئ سامية أو قيماً أخلاقية تقنع أحداً.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/11/15