جريمة القرن وصفقة القرن
د. رائد المصري
بهدوء… فقد قلنا سابقاً إنَّ جريمة قتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول وتداعياتها لن تنتهي بثمن أقلَّه رأس محمد بن سلمان في السلطة. وها هو حبْل الاتهامات يلتفُّ ويضيق شيئاً فشيئاً حول رقبته بعد تقديم الأتراك جرعة زائدة من تسريبات التحقيقات الجنائية الدامغة والتي بنَتْ عليها التحقيقات الأولية لوكالة المخابرات المركزية الأميركية «السي آي إي» معطياتها لتقدِّمها للرئيس ترامب الذي لا زال يناور ويلتفُّ بغية عدم إعطاء أي موقف سياسي يُدين الرأس المدبِّر لهذه الجريمة. ونقصد به ولي العهد السعودي وهو الذي قال إنَّ مواقفه يبنيها بناء على تقارير وتحقيقات وكالة المخابرات المركزية الأميركية…
إنها جريمة القرن التي قُدِّر لها أن تغيِّر مجرى التاريخ الذي بناه المستعمر الغربي مع الرجعيات العربية وملوكها ومشايخها منذ بدء تكوين الدولة العربية وزرع الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين العربية بتواطؤ هؤلاء، ويريد هذا المستعمر اليوم أن يستكمل جريمته الموصوفة في صفقة القرن بكلِّ وقاحة مع الأدوات والشخوص نفسها من نواطير وعملاء اعتبروا أنه بحفنة من أموال البترودولار يستطيعون تغيير وطمس التاريخ العربي والإسلامي وتدنيس مقدّساته، متناسين بأنَّ ما تقوم به بعض الأنظمة العربية هذه الأيام من تطبيع علني مع الصهاينة أنَّما يدلُّ أكثر على أنَّها أنظمة فقَدَتْ مبرِّرات وجودها في الإقليم، وهي التي اختارت أن تكون مع الطرف المعادي لحضارتها ولدينها ولشعوبها. وبهذا فَهُمْ قد وقفوا ضدَّ التاريخ ومسلماته….
التقارير الآتية من واشنطن هذه الأيام وتصدَّرتها عناوين الصحف ووكالات الأنباء العالمية تبدو أنها موثوقة كوكالة رويترز والواشنطن بوست وول ستريت جورنال المبنية على تأكيد وكالة الاستخبارات الأميركية «سي أي إي» بعد توصُّلها إلى نتيجة مفادها أنَّ محمد بن سلمان هو الذي أصدر الأوامر بقتل الخاشقجي من خلال التسجيلات الصوتية التي حصل عليها الجانب التركي. وهي تأتي في سياق الردِّ على تقرير النائب العام السعودي الذي كال الاتهامات بحقِّ بعض المتورِّطين في هذه الجريمة الشنيعة لطمس الحقيقة نهائياً، وجعل إبن سلمان يفلت من العقاب كما كان مخططاً، وكذلك لتضَع الرئيس ترامب وصِهره كوشنر عراباً صفقة القرن في مَوضِعٍ حَرِجٍ ومشبوه بعد تَبَنِّي الرِّواية السعوديّة الرسميَّة سابقاً التي تَنْفِي أيَّ دَورٍ لوليّ العَهد السعوديّ فيها وتُلقِي باللَّومِ على رئيسِ الفَريقِ الذي أعطَى الأوامِر بالاغتيالِ دُونَ تَسْمِيَتِه، ومن دون أن ننسى أنَّ القضيةَ برُمَّتها صارت في ملْعَب الكونغرس الأميركي الذي فقدَ أغلبيته الرئيس ترامب في انتخاباته النصفية الأخيرة…
فلا يستطيع حلفٌ غربيٌّ استعماريٌّ عربيٌّ ناتوي صهيوني عنصري استكمالَ مشروعه التعسُّفِي في العالم. وفي المنطقة العربية وهو مأزوم ويُعاني التصدُّعات في كلِّ مكان من خلال الممارسات الاستعمارية المتفلِّتة التي أصابَت كلَّ شعوب الأرض في مقتل، ووسَّعت من دائرة الانقسامات العمودية في بيئات السُّكان واستقوَت عليهم بأدوات وأذرُع البنك الدولي المحليِّين لإفقارهم، ولم يكتفوا بذلك بل ورَّطوا وزادوا في منسوب الكراهية والأدْلجة الدينية لتتحوَّل إلى آلات تدميرية للدول بواسطة التكفير والقتل الأعمى، ليعلنوا مشروع صفقة القرن لتصفية القضية الفلسطينية وقانون القومية اليهودي فإذ بهم يجدون: بأنَّ سورية والعراق تتعافيان بصورة غير مسبوقة باستثناء بعض المحاولات الأميركية من أجل إبقاء حال النزف الذي لن يجديهم، وها هي «إسرائيل» بعد فتحها معركة غزة مؤخراً خسِرت حربَها واستقال وزير دفاعها والحكومة فيها مُتصدِّعة وشعب غزة وفلسطين مزهواً بالانتصار على هذه العربدات، انتصار قَلَبَ كلَّ مفاهيم الصراع العربي الصهيوني وطوى صفحة تاريخية من الذلِّ والمهانة بحقِّ الشعوب العربية وأسَّس لبناء قوة ردع وتوازن استراتيجية على غرار لبنان ومقاومته…
وكذلك الحلف الأطلسي الذراع الغربية في تطويع إرادات الدول وضمِّها تحتَ العباءة الاستعمارية الأميركية فهو اليوم أمام معطيات مختلفة بالانقسام الأوروبي وبناء قوة عسكرية منفصلة عن الحلف وعن أميركا منعاً للاستقطابات التاريخية التي زَرَعها المستعمر الأميركي في نفوس الأوروبيين والفوبيا من القوَّة والتوسُّع الروسي فقرَّروا بناء تفاهم يقودونه بأنفسهم مع الشرق ومعه يؤسِّسون لسياسات استقلالية طالما كانت مُلحقة بالدَّور وبالقرار الأميركي عبر العالم وخسَّرها معظم احتياطياتها وتراكمات رأسمالها المتطوِّر…
إنَّها منظومة التحالف المهزوم التي تخسر حروبها عبر العالم، وفي الإقليم يجعلنا نختبره من خلال مراقبة ردَّات الفعل في «إسرائيل» وحجم خوفها واضطراب سياساتها الداخلية وتكبيل اعتداءاتها في الخارج. وهنا لا يسعنا القول إلاَّ للرئيس المكلف تشكيل الحكومة في لبنان المتمترس خلف موقفه المذهبي والمتحصِّن بدار الفتوى: بأنَّ كلَّ يوم يمرُّ من دون تشكيل الحكومة سيزيد من منسوب التنازلات التي ستقدِّمها لأنَّ مسار الإقليم والتداعيات العسكرية الميدانية والسياسية من اليمن إلى غزة لا تسير وفق المخطَّطات التي رسَمَها لك محلِّلو وراديكاليو بيت الوسط.. فالقبول بما هو موجود أفضل ورُبَّما يؤسِّس لمصالحة وطنية واعتراف متبادل بالأحجام والأدوار ليُستكمَل بناء الدولة القوية والعادلة…
أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/11/19