«التوحّد» مرض العصر.. بامتياز!
د. عبدالفتاح ناجي
لن أكون من أكثر المتشائمين أو أقل المتفائلين؛ ولكن الأرقام والإحصاءات التي يسوقها المتخصصون في مجال التربية الخاصة حول العالم، تؤكد خطورة ذلك المرض الاجتماعي الصامت، الذي يرى عدد من المتخصصين أنّه يقترب من مفهوم «اضطراب» أكثر من كونه «مرضاً»! ولكن أياً كان لقبه فهو يشكّل خطراً لكونه يحمل في طياته آثاراً سلبية تصيب الفرد والمجتمع معاً. إن «التوحّد» اضطراب اجتماعي يصيب الأطفال في عمر مبكّر، ويتمكن منهم ويدخلهم في انغماس مع الذات وانفصال عن عالمهم الاجتماعي، مما يكلّف الأسرة والدولة جهوداً وموارد مادية وبشرية تتمثل في مدارس ومراكز ومتخصصين لمواجهة انتشار حالات التوحّد بين الأطفال، الذين سيعتمد عليهم مستقبلاً لبناء الوطن.
لعل صدمة الأسرة تبدأ عندما ترى طفلها الذي تتوقع منه النشاط والحركة، قد أصبح جامداً بمكانه، يفتقر إلى التفاعل مع الآخر، يجلس مع نفسه ويتجنّب الآخرين، مما يقلل فرص اكتسابه للمهارات الاجتماعية واللغة، وغيرها من المهارات والمعارف التي يصنعها التفاعل الاجتماعي، فتبدأ معاناة الوالدين في إعادة طفلهما إلى الواقع الاجتماعي من جديد!
إنّه «التوحّد».. يتشكّل داخل الجسد بصمت، ولا يمكن تشخيصه دونما اختبارات ومتابعة دقيقة، ويكمن سر تجنّب الانضمام لعائلة «التوحّد» في تحصين أطفالنا منه من خلال الوقاية، التي تقع على عاتق الوالدين، ولا تحتاج منّا ترتيب زيارات للعيادات والمراكز الطبية، فالأسرة من خلال تنشئتها الاجتماعية ونمط الحياة داخلها، بالإضافة إلى البيئة التي تحيط بذلك الطفل هي ما تعطيه «مضاداً حيوياً» من الإصابة بـ«التوحّد»، إذا ما أتقن الوالدان أسلوب تربية متوازناً يحقق النمو الاجتماعي والانفعالي والنفسي السليم لأطفالهما!
لعلّ نمط الحياة «العصري»، الذي تمكّن من بعض الأُسر ووضعهم في فضاء المتطلبات «اللامتناهية» في عالم الكماليات، ومعه نسيان دورهم الحقيقي في تحصين أطفالهم وتدريبهم لدخول العالم الاجتماعي الحقيقي، مما جعل من الأطفال أداة بيد العالم الخارجي بجميع أدواته البشرية والمادية، فكانت «تكنولوجيا التواصل» من أسرع العوالم دخولاً في حياة الأطفال، بما تحمله من إثارة بصرية وعقلية للطفل، وفي وقت ابتعاد الوالدين عن ذلك المشهد، اتقن ذلك الطفل الدخول وجهل الخروج، فأصبح حبيساً داخله! ومعه كانت الشرارة الأولى لفقدان «أوكسجين» الحياة الاجتماعية، وبداية دخول «علامات التوحّد» في عقل الطفل وجسده!
نعم، للتكنولوجيا أصول في الاستخدام و«كراسة شروط» لا بد من توافرها فيمن يستخدمها، ولا أعتقد أن طفل «الثلاث أو الأربع سنوات» ممن تنطبق عليهم شروط الاستخدام، فهو لا يحتاج إلى إتقان التعامل مع «الأجهزة الذكية». فهناك عالم اجتماعي واسع يجب أن يراه ويعيشه بكل جوارحه، فحاربوا «التوحّد» بإطلاق أطفالنا نحو العالم الاجتماعي وتأخير وقت اقتنائه لـ«جهازه المحمول» الأول!
جريدة القبس الكويتية
أضيف بتاريخ :2018/11/23