مستكبرون في الأرض
أحمد التيهاني
أهمّ الصفات التي تميز قطعان المستكبرين في الأرض عن غيرهم من القطعان أو الأفراد، أنهم يرون في أنفسهم الأوصياء على المحيطين بهم من خلق الله، ويتوهمون أنهم الفئة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وأنهم المجموعة المُلهَمة المسؤولة عن إسعاد البشرية واستقامتها، ولو كان الطريق إلى تلك السعادة الموهومة تعاسات متراكمة على جانبي طريق مزروعة بالظلم والغبن والقهر.
المستكبرون -على الدوام- يعدِون بما ليس في أيديهم تحقيقه في المستقبل، لكنه يحقق لهم -الآن- امتيازات دنيوية، يدّعون أنها ليست الهدف، ولذا فإنهم في قمة الانكسارات الجماعية، التي هم سببها الرئيس، يتشدقون بتفاؤلهم بمستقبل عظيم للأمة، أو للمجموعة البشرية الكبيرة التي ينتمون إليها عرقيا أو دينيا أو مكانيا، ليظهروا في صورة المنقذين على المدى الأبعد، فيما هم المدمّرون الآن وغدا، والتاريخ شاهد صادق على أمثالهم.
المستكبرون في الأرض، يمارسون قهْر المختلف عنهم بحجة الدفاع عنه، وحمايته من غواياته، وصون الفضائل فيه، ويصرون -بالقول- على أنهم الساعون الوحيدون إلى الحفاظ على كرامة الإنسان، ولو كانت أفعالهم كلها إهانات صارخة للكرامة الإنسانية.
ولما كان المستكبرون يحافظون على الكرامات بالقول والادعاء، لا بالفعل، فإنهم -بمناسبة وبدونها- ينزهون أنفسهم عن الزلل والخلل والخطأ، وعن الصفات البشرية كلها، وفي الوقت نفسه يصمون غيرهم بالعيوب جميعها.
ومن السمات المشهودة والمشهورة عن المستكبرين في الأرض، أنهم يتحولون إلى "دبابير" بشرية في حال نقْد أحد كبرائهم، فيلدغون ناقديه بالحق والباطل، ويتخيرون من ألفاظ اللغة أسوأها -إن لم تكن أقذرها- ليشتموا بها ناقدي كبيرهم الذي علمهم الاستكبار، وقد يتجاوزن القول المتجاوز إلى الفعل المتجاوز، فيقتلون في أنفسهم ضمائرهم قتلا صامتا دون أن يدركوا ذلك، ثم يتآمرون على ناقدي رمزهم، وينفذون المؤامرات بطرائق تتقزز منها الأنفس المستقلة السوية، وتترفع عن مثلها عقول أدهى عتاة الإجرام.
هذه الاستماتة، وذلك التنازل عن المبادئ في سبيل الدفاع عن كبير من كبراء المستكبرين، لا يمكن أن يكونا ناجمين إلا عن "آيديولوجيا"، تتجاوز تغييب العقل، إلى تغييب أو قتل الضمير ووازع الدين الأصلي.
قاعدة هذه "الآيديولوجيا" الفاسدة، هي: أن كبراء المستكبرين وموجهيهم السريين أو المعلنين -في أذهان صغارهم- رموز منزّهة، تسمو طبائعها عن الصفات البشرية، فتصبح في أذهان تابعيها تماثيل للفرْد الكامل الذي لا يخطئ، ولا يكذب، ولا يظلم، ولا يفتري، ولا يحتال، ولا يجهل، ولا يضعف أمام حظوظ النفس، أو أمام شهوة الانتصار لها.
أما تواضع المستكبرين في الأرض فإنه لا يكون إلا استكبارا؛ لأنه لا يتحقق إلا في حال خضوع الآخرين لهم، واستسلامهم الكامل لإرادة الاستكبار التي تنعدم فيها الخيارات، وتكون أطرها حادة مؤلمة لكل من حاول تجاوز الإطار إلى فضاء أرحب، أو إلى حياة حرة كريمة كالتي أرادها الله -سبحانه- للإنسان منذ استخلفه في الأرض.
إن تواضع المستكبرين الشكلي الزائف آت من توددهم لكل من ينجحون في "استتباعه"، وهو نتيجة لكون أدبياتهم وأفكار كبرائهم قائمة على عدم الإيمان بأن الحياة والأوطان للناس كلهم على اختلاف توجهاتهم وطرائق تفكيرهم، لأنهم يريدون أن يدفعوا بالناس إلى حيث مصالحهم الجمعية أو الفردية، وفي حال تمرد فرد أو فئة، فإن النتيجة الحتمية عقاب مؤلم غير أخلاقي يناله المتمرد، وبشع أمام كل من تبقت فيه بقية من خلايا "إنسانية"، ومن البدهي أنه لم تعد في أجساد المستكبرين خلايا من هذا النوع؛ لأن إزالتها، أو غسلها، لازمان من لوازم الانتماء إلى جماعات الاستكبار.
نسأل الله أن يعيد إلينا خلايا الإنسان فينا، وأن يهدي أصحاب الفكر المفضي إلى إزالتها. إنه سميع مجيب.
صحيفة الوطن
أضيف بتاريخ :2016/03/10