رهانات التطبيع ومجالس النَّدْب المفتوحة
د. رائد المصري
بهدوء… إنها مقصلة التهويد للقدس بمحاولتهم الأخيرة فما يتمُّ الترويج له لم يعُدْ داخل الأروقة السياسية المُقْفلة، بل صار علناً وعلى طاولة التشريح للبدء بالتنفيذ بعد إتمام المقرَّرات التي يُراد لها بإجماع عربي إسلامي وسط تسليم رسمي بالقضاء الأميركي والقدر الصهيوني… فلن يمرُّوا:
لن يمروا لأنَّ الحقَّ العربي والإسلامي في فلسطين والقدس أقوى. وهذه ثابتة تاريخية لا جدال فيها.
لن يمروا لأنَّ يوم القدس والاحتفالات التي تجوب العالمين العربي والإسلامي رفضاً لمشاريع الهيمنة والاستكبار صارت مناسبة لازِمة وواجبة في كلِّ عام وهي تتوسَّع وتكبر.
لن يمروا لأنَّ التشكيل في الإقليم الذي قاموا على أنقاضه واكتسبوا مشروعيتهم في ضرب حركات التحرُّر والتخلُّص من فيضِ منسوب كرامة فلسطين قد تغيَّرت، وأنَّ المعطيات التاريخية الوظيفية أنْهَت مفاعيل أدوارهم المشبوهة.
لن يمروا لأنَّه كلَّما نقَص عنصر في الكرامة الرسميّة عند البعض لأَزْلام وأذناب الاستعمار وذئابه في الكيان الصهيوني، زاد منسوب الكرامة الوطنية والقومية لدى فئات واسعة من الشعوب العربية والإسلامية وفي داخل فلسطين وتوسَّعت دائرة الرفض والمقاومة أكثر.
لن يمرُّوا لأنَّ أشْباه الرجال حتى بعُقَدِهم الذكورية يخافون من شيء اسمه فلسطين والقدس والكرامة والعزَّة، وهي بالمناسبة أسماء لإناث، وهذا محضُ صدفة..
لن يمرُّوا لأنَّ يوم القدس وبمحض الصدفة كان يوم الزَّخم الذي أراد الصَّبيُّ كوشنير أن يعبث به بمصير المنطقة لتسويق مشروع التصفية فكيف نقبل بحكم الولد؟
لن يمرُّوا لأنَّ من يُراهن على تعَب الأجيال وانشغالهم عن قضاياهم الوجودية هو واهِم ومشبوهٌ ومضلَّل، فلا أحد يستعجل الانتصار. فالبيئة الداخلية الأقرب هي الأساس للبدء في التطهير بإلغاء مجالس العزاء والنَّدْب على تفكيك مشروعهم الأميركي والصهيوني في المنطقة. وهو فعلاً على طريق التفكُّك…
إنها مآسي الشرق المتكرِّرة وعقْله الجمعي الذي لا يريد الصدام ولا صدَّ مشاريع الهيمنة، ولا تحقيق التغلُّب والسَّبق الحضاري، ولا السماح لمشروع المقاومة أن ينجح ويستمرّ، فعلوها مع قادة حركات التحرُّر العربية في السابق وهم اليوم يكرِّرون ما ارتكبته أيادي آبائهم في سلطتهم الذكورية المتأبدة…
بهدوء من جديد، فنحن اليوم نعيش مرحلة استقطابات واصطفافات جديدة في إقليم الشرق الأوسط مبدؤها الانقسام بين محورين أو تحالفين متناقضين تناقضاً وجودياً. وعلى المشتركين في حلبة هذا الصراع أن يكونوا إما مع محور صفقة القرن ورُعاتها ومُموِّليها وسماسرتها أو أن يكونوا مع محور المقاومة بكلِّ مندرجاته وقِيَمِه، وهو الذي يسير نحو إسقاط مشروعهم الأميركي الصهيوني ولا بدَّ أنَّه سينجح، وساعتها ستكون التداعيات كبيرة ومؤلمة وستغيِّر معالم الشرق الأوسط وشكل تحالفاته وبناء قوته على غير القوة الأميركية التي أرادها. من هنا استشعار البعض لهذا الخطر الوجودي على مستقبل الدول والتداعي لعقد المؤتمرات والتجمُّعات الإقليمية حتى لو تطلَّبت منهم الحضور الإسرائيلي إن لزم الأمر.. كلاَّ وسيحضر…
استشعار قادة القمة الإسلامية في مكة المكرمة خطر هذا الانقسام والخطر الداهم على المقدَّسات في فلسطين، جعلهم يُعدِّلون في خطابهم وفي بيانهم الختامي برفْض تهويد القدس وتثبيت شعار حلِّ الدولتين ومنع العَبَث في ما تبقى من الأراضي العربية التي تحتلها «إسرائيل»، لكن كل ذلك قد جرى تحت وطأة ضربات الشعوب الحرة التي نزلت الى الشوارع تندِّد بالكيان الغاصب وبسياسات التآمر على الكرامة الوطنية والإسلامية والقومية، فهي لحظة تاريخية في مسيرة هذه الأمة لإعادة الاندفاع وكشف مشاريع الهيمنة والتحالفات المشبوهة بوجه عدوٍّ افتراضيٍّ غير موجود.
بناء التحالفات الجديدة التي يريدها ترامب مع بعض العرب لن تكون وسيلة لأجل تحقيق غاية يتمُّ العمل عليها في المدى القريب أو الأبعد، فمن المنظور الاستعماري الغربي كانت هذه التحالفات منطقية ومبرَّرة إبَّان تكوينها وإنشائها في السابق، لكنَّها ليست كذلك اليوم، لأنَّ ترامب يريد إيقاف حروب أميركا المستمرّة، وبدلاً من ذلك عليه أن يبدأ في تمزيق التحالفات العسكرية مثل تمزيقه الاتفاقيات التجارية بعد تولّيه منصبه، وليس بناء تحالفات على طريقة ضعيفة كاجتماعات وارسو والناتو العربي وغيرهما، بحيث صارت سياساته الارتجالية التي يرسمها بخطِّ يده مكشوفة ومعروفة المصدر والنَّهج والمدى الزمني، تحالفات وتحشيد مع دول ثَبُتَ أنَّها خسرت رهاناتها وبيئاتها ودمَّرت شعوبها وساهمت في استئصالها من منبتِها وفقدت شرعيتها في الوجود فلن تنفع مشروع ترامب بشيء ولا تقدر على تسويق مشروع صهره كوشنر وجوقة العنصريين والراديكاليين من حوله.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/06/03