لا صفقات ولا اتفاقات ولا تطبيع أو توطين بل مقاومة ووقفات عزّ تواجه الصفعات والضربات
اياد موصللي
أتذكّر اليوم وأنا أشاهد الغضبة الجماهيرية تعمّ بلادنا وبعض البلاد العربية وجزءاً كبيراً من العالم. أتذكّر هذه المشاهد والمواقف التي كانت تجري في الثاني من تشرين الأول من كلّ عام تاريخ «وعد بلفور». تضجّ الدنيا، تقوم الصحافة ولا تقعد، تكتب عن التظاهرات التي تعمّ البلاد تعبيراً عن الغضب والرفض لما يُحاك لفلسطين، وتنطلق التهديدات بقطع رقاب من يتجرأ على تدنيس قدسية أرضنا التي هي لأمتنا وحدها «فلسطين لنا وستبقى لنا…»
نشأنا وتربّينا في مجتمع وجماعات وهتاف الجراح يضجّ في آذاننا وآثار النكبات تهزّ ضمائرنا ولم نعرف هموماً في الحياة وعلى هذه الأرض بإنسانها وترابها سوى فلسطين والعدوان المحضّر لسلبها.. ركضنا في دروب التضحية والعطاء بسخاء البذل وسخاء الاستشهاد.. شعارنا «الحياة وقفة عزّ فقط».
هذا جيلنا نحن، جيل العنفوان، جيل الرفض، جيل البناء، جيل عنده الدماء أزكى شهادة في الحياة. جيل يعرف انّ للوطن حدوداً تصونها كرامة الأمة وسماء تحلق فيها أرواح الشهداء، وما بين حدود الأرض وارتفاع السماء حضارة أمة أبت ان يكون قبر التاريخ مكانها في الحياة، ولها تاريخ تليد لم تسجل أمة من أمم العالم كله ما سجله أجدادنا في تاريخنا العظيم، من قيم الحق ومناقب الإنسان، وإبداع الفكر، وإرادة الحياة في السيطرة على كلّ مفاتيح الارتقاء، فختنا الحجر، وأطلقنا الشراع نروّض البحر نمخر عبابه، وأوجدنا الحروف الأبجدية تشهد لنا بأبوّتنا للحضارة وفضلنا على الإنسانية بهذا المخزون من الإيمان بما نحن وما كنا عليه وما سنكون، سرنا في طريق طويلة مضنية مؤلمة شاقة لأنها طريق الحياة وأبناء الحياة…
فأيّ جيل ننشئ اليوم وغداً؟ ولأية أمة وأرض وأيّ تاريخ نسجل. أرضاً مسلوبة منهوبة تزال هويتها ويبدّل جوهر وجودها. بصمت وتواطؤ ومحاولات طمس عزّتها وكرامتها عبر صفقات الذلّ والعار نريد وضع حدّ للمتآمرين حيث يحاول نفرٌ من ورثة الخيانة إعادة تكرار فصول الذلّ في تاريخ صنعوه.. وأرض باعوها وأمة طعنوها في ظهرها غدراً وخيانة..
اليوم نرى ونلمس ثمار تلك المرحلة الخيانية التي لعب فيها أعراب ذلك الزمان من الحسين شريف مكة وأولاده فيصل وعبدالله اللذين سهلا عقد الصفقات التي سلبت فلسطين وضاع أهلها قتلاً وتشريداً بعد مرحلة رفض لتقرير لجنة بيل في تموز 1936 الذي اقترح تقسيم فلسطين الى دولتين فلسطينية ويهودية، كما تمّ رفض قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين.
نستعيد بعض مراحل الرجولة والإباء في تاريخ بلادنا التي جرت في زماننا ونشاهد ما يحاولون القيام به اليوم بتكرار الأدوار وتحقيق العهود والوعود فما قام به شريف مكة وأبناؤه يقوم به اليوم حكام السعودية وإمارات الخليج في التعاون مع «إسرائيل» عبر إقامة تطبيع سياسي جغرافي يكمل ما بدأ في الخطوة الأولى ويؤدّي الى توطين الفلسطينيين في الشتات وفق مشروع وضعته أميركا وأطلقوا عليه صفقة العصر.. وهي المرحلة النهائية والأخيرة التي تعمل «إسرائيل» على تحقيقها.
لقد ابتلعوا الأرض وهم اليوم يريدون فترة تتيح لهم هضم ما سلبوه وتنظيم أوضاعهم المعيشية والمستقبلية عبر إحلال فترة من السلام.. أيّ سلم خادع هذا.. نحن نؤمن بأنّ السلم هو ان يسلّم أعداء أمتنا بحقنا في الحياة على أرضنا ووطننا.. نحن نؤمن بأنّ الأمة التي تسلّم نفسها للسلم تسلّم نفسها للعبودية.
إنّ ما بيننا وبين اليهود صراع وجود لا صراع حدود، يريدون أن ينتصروا علينا وإذلالنا. انّ ما بيننا وبينهم صراع وجود يريدون عبر ما يحققون من انتصار أن يقوموا بإزالتنا فكرياً وإنسانياً فنصبح مجموعة خاضعة تابعة مستعبدة.
أريد أن أذكّر من لم يتذكّر ومن نسيَ انّ جوهر المسألة الفلسطينية هو رفضنا قبول المشاركة في الانتساب لأرضها إلا لأبنائها الذين آمنوا أنّ الدماء التي تجري في عروقهم هي وديعة أمتهم متى طلبتها وجدتها ولن يتنازلوا عنها لمغتصب أو محتلّ.
اليوم أمتنا وشعوبنا والشعوب المؤمنة بحقنا وحقوقنا القومية وقفت في هبة غاضبة تذكر كلّ من نسيَ أنّ هذه الأرض لنا وأننا ما زلنا وسنبقى أمة تأبى أن يكون قبر التاريخ مكاناً لها في الحياة. حصلت النكبة بسبب التقاعس والتآمر والخيانة نحن نؤمن أنه «ليس عاراً أن ننكب بل العار ان تحوّلنا النكبات من أمة حية قوية إلى أمة ضعيفة مستسلمة…»
الآن وبعد أن استكملت الصهيونية مرحلة بنائها بالاستيلاء على فلسطين كلها وأقامت ما أقامت من منشآت وصناعات واستقرّ المهاجرون ووفرت لهم أماكن الإقامة وبعد أن أخذت من الولايات المتحدة الهبات المالية والقروض الميسّرة بدأت تبحث في تنفيذ المرحلة الثانية من خطتها لفرض سلام على أعدائها ونشر فترة من الاسترخاء والهدوء ومحاولة الدخول في حرب جديدة برايات بيضاء هي الحرب الاقتصادية والسيطرة الصناعية التجارية بالدخول الى الأسواق المجاورة واقتسام المياه، ليصبح شعب مؤلف من قرابة 250 مليوناً يتبعون أربعة ملايين يهودي!
إنّ كلّ الإنتاج اليهودي والشطارة اليهودية ستصبّ في بحر هذا المدّ الكبير لتغرف من خيراته وثرواته، وبذلك تؤمّن اليهودية لنفسها الديمومة والبحبوحة والاستمرار ولأجيالها المقبلة النمو بهدوء وسعة مؤهّلين لاستكمال مشاريعهم بقوة واقتدار مقابل أجيال لنا تنمو متواكلة كسولة جاهلة ما يجري حولها بفعل التعتيم المتعمّد في تاريخها وصحافتها وإذاعتها وبفعل الاختلاط الهادئ بين السكان وبفعل السيطرة المتنامية للعدو الخفي…
لن يتحقق الانتصار إلا متى ما آمن كلّ منا على هذه الأرض بأنه ليس لنا من عدو يحاربنا في ديننا ووطننا إلا اليهود. وليس من حركة تضمر لنا السوء والعداء وتسعى لتخريب مجتمعنا وأخلاقنا وقيمنا إلا الحركة الصهيونية.
هذه المرحلة التي تحاول أميركا و»إسرائيل» تحقيقها عبر سماسرة الخيانة وتحت ستار المؤتمرات والصفقات التي ينادي بها أعراب أصبح هدفهم وشعارهم التطبيع مع العدو من البحرين والحجاز وسلطنة عُمان وإمارات الخليج.. هذه المرحلة لن تتحقق لأنّ جيلاً مقاوماً مؤمناً نشأ وترعرع فوق حطام العملاء مؤمناً بأنه ليس لنا من عدو يقاتلنا في ديننا ووطننا إلا اليهود، وأنه ليس من يضمر لنا العداء والسوء ويسعى لتخريب مجتمعنا وأخلاقنا وإذلالنا إلا الصهيونية.
ولأنّ هذا الجيل مؤمن بحقيقته وحقيقة انتمائه فلا صفقات بعد اليوم بل لطمات وصفعات وسوف نستعيد قوتنا. القوة التي قال عنها سعاده: «أن فيكم قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ…»
لقد كُتبت نهاية «إسرائيل» وبدأت فصولها الأولى على الأرض يوم انتفض الجيل الجديد في فلسطين وفي الشتات ليعلن رأيه ويحدّد موقفه ويرسم طريقه عبر تجمعات مؤمنة بقضيتها باذلة من أجلها دماء آمنت أنها وديعة الأمة فيها متى طلبتها وجدتها، وما امتلاء السجون والمعتقلات إلا صوت من أنغام نفير الجهاد فهذا الجيل مؤمن بأنّ طريقنا طويلة وشاقة لأنها طريق الحياة وأبناء الحياة ولا يثبت عليها إلا الأحياء وطالبو الحياة أما الأموات فيسقطون على جوانب الطريق… وها هي جثت الجبناء والعملاء بدأت تتساقط، أنني أرى جيلاً مؤمناً بأنّ مَن تقاعس عن الجهاد مهما كان شأنه فقد أخّر في سير الجهاد…
أنا لا أهرش ولا أحلم… إنّ تاريخاً جديداً سيكتبه جيل جديد وإن حدّ الذلّ قد وصل إلى نهايته، إنّ إرادة الحياة قد فرضت نفسها وأعلنت عن وجودها يوم ترجمت المقاومة في لبنان وعلى الأرض ما كنا نراه في أحلام النوم واليقظة وها هي المقاومة بكلّ عناوين العزّ والفخار جاثمة على صدر العدو… عدو الإرادة وعدو الوجود… عدو حاكم متخاذل وشعب مستسلم قانع، وعدو الوجود صهيوني متغطرس، بأرضنا ووجودنا في وجه هذا كله بصقت المقاومة وزغردت الصبايا وضحك الأطفال وقبل ان تلوح شمس العز كان وميض نور الكرامة يشعّ من جباه جيل آمن بانه ينتمي لأمة صنعت الحياة…
وأمام هذه المقاومة في لبنان كان هتاف الجراح يناديها من فلسطين نحن هنا رفقاء قضية رسالة حياة… توحدت إرادة العزّ ولاحت بيارقه وأمام كلّ شهيد، يولد وليد منتش بدماء جديدة يتنشق هواء نقياً مضمّخاً بأريج النبل والبطولة ويناديهم من بعيد صوت مدوّ يقول سيروا إلى الجهاد ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل وما أروع النصر الذي سوف تحققون…
إنّ البطولة التي يسجلها ويجسّدها العاملون بصمت بعيداً عن الإعلام وبعيداً عن الضوء والضوضاء تلك هي البطولة المؤيدة بصحة العقيدة والإيمان هي التي سوف تصحّح كلّ المفاهيم وتؤكد أنّ فلسطين انتصرت والأعراب أفلسوا، إنّ فلسطين العروبة انتصرت بالإرادات، والأعراب أفلسوا رغم القرارات… وإنّ إرادات البقاء أقوى من القرارات والاملاءات…
إنّ تاريخاً جديداً سوف يصنعه الجيل الجديد.. جيل تخطى التواكل والخنوع والخضوع، جيل مؤمن بحقه في أرضه يحيا عليها بعزة وكرامة.. سيعود من الشتات مدعوماً بأبناء أمته في كلّ أنحاء الوطن في فلسطين.
جيلنا المؤمن لا يحرّر ويوقع الصفقات بل يوجه اللكمات والصفعات للأعداء والمعتدين.. جيل مؤمن بأننا نواجه الآن أعظم الحالات خطراً على وطننا ومجموعنا، فنحن أمام الطامعين المعتدين في موقف يترتب عليه إحدى نتيجتين أساسيتين هما الحياة والموت واية نتيجة حصلت كنا نحن المسؤولين عن تبعتها..
وكما قال سعاده: لم يتسلط اليهود على جنوبي بلادنا ويستولوا على مدن وقرى لنا إلا بفضل يهودنا الحقيرين في ماديتهم الحقيرين في عيشهم الذليلين في عظمة الباطل.
إنّ الصراع بيننا وبين اليهود لا يمكن أن يكون فقط في فلسطين بل في كلّ مكان حيث يوجد يهود قد باعوا هذا الوطن وهذه الأمة بفضة من اليهود، إنّ مصيبتنا بيهودنا الداخليين أعظم من بلائنا باليهود الاجانب.
ستعود بلادنا وسنعود إليها بقوة وإيمان أبنائها ونحن ننشد بالإذن من نزار قباني:
يا ابن ثورة الأرض التقت بثورة السماء.. إننا نبوس السيف بين يديك ونناديك إياك أن تقرأ حرفاً من كتابات العرب فحربهم إشاعة وسيفهم خشب وعشقهم خيانة ووعدهم كذب..
هتافنا النابع من قلوبنا سيبقى. نحن قوم لا نلين للبغاة الطامعين أرضنا فيها معين للأباة الميامين.
عائدون عائدون منتصرون.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/06/04