«ورشة البحرين».. والصهيونيّة المحمديّة
نظام مارديني
كشف مبلغ الـ «50» مليار دولار الذي وضعه اليهودي جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لكي ينهي «الوجع الفلسطيني» من خلال «ورشة» تقام اليوم وغداً في البحرين برعاية وغطاء من «الصهيونية المحمدية»، أن هذه «ورشة البحرين» لا تعدو كونها سوقاً حدد فيه سعر القضية الفلسطينية بما تشمله من تاريخ وحضارة وتراث ومقدسات. وسيكون من الطبيعي أن من يحضر السوق يتسوّق، ولكن بغياب أصحاب القضية.. القضية ذاتها التي تمّ اختزالها اليوم بمدينة القدس، وقضية حدود لا قضية وجود!!
السؤال الذي يُطرح على هامش هذه «الورشة»، هل ستستطيع الولايات المتحدة ضبط إيقاع هذه «الصفقة التجارية» لتحقيق أمن «إسرائيل»؟ أم أن «الورشة» ستعمق الصراعات بين دول المنطقة التي انقسمت إلى محورين متشابكين تستخدمان فيهما أنواع الأسلحة جميعها، وما هو السلاح الأمضى لفرض هذه الخيانة على شعبنا.. إنه الدين!؟
في كتابه القيّم «كيلا تكون صهيونية إسلامية» حذّر الباحث المصري محمود عبده، من الثغرات التي يمكن أن تؤدي إلى ظهور «صهيونية إسلامية»، لا تقل في خطرها عن «الصهيونية اليهودية»، و»الصهيونية المسيحية». معتبراً ظهور هذه الصهيونية هي «خيانة القضية الفلسطينية باسم الدين».
ولكن هل يمكن أن تكون «الصهيونية المحمدية» أقوى من «الصهيونية المسيحية» و»الصهيونية اليهودية»؟
على الرغم من أن السؤال قد يبدو غريباً ومنافياً للطبيعة والعقل إلا أنه ليس كذلك. فالصهيونية اليهودية أقوى في مدّ مخالبها في المجتمعات والأديان، و»الصهيونية المحمدية» أخطر على مجتمعنا لسهولة قدرتها على استخدام الدين لخدمة المشروع الاستعماري.
إن الصهيونية الدينية بضلعها «اليهودي»، عمِلَت على صهينةِ العالم سياسياً، بدءاً بالمسيحيين، وانتهاء بالمحمدية. ولأن معظم أديان أهل الأرض، لا تشكل مرجعياتهم ذات الطبيعة الدينية تقاطعاً مع المشروع اليهودي في فلسطين ومحيطها القومي، إلا أن المرجعيات الإسلامية المسيحية والمحمدية يمكنها أن تكون أرضاً خصبة لترويج الصهيونية «الدينية»، فقد كان من الطبيعي أن ينصبَّ الجهد الصهيوني في عالمنا العربي، في جانبه «الديني» تمهيداً لبلورة جانبه «السياسي» كما في «صفقة القرن» و»ورشتها» في البحرين.
لا شك في أن «الصهيونية المحمدية» كانت «نبوءة خفية» في الماضي وأصبحت «نبوءة مكشوفة» بوقاحتها الآن، يعتقد من خلالها آل سعود أنه قد يغفر لهم الشرفاء في المنطقة «كل شيء»، ولكن أحدهم قال لي، وماذا عن السعودية؟… قلتُ له لا يزال آل سعود يبهروننا حقيقة بتأكدّهم من أنّ الله سيحمي عروشهم… إنهم يعيشون في عالم الغيب!
هل نتذكر ولسان عرب الوهابية يردّد معزوفة «ما علاقتنا بقضية فلسطين؟» وها هم يطبّعون.. السؤال هنا يأخذ أشكالاً شتى، وهو ما بدأنا نسمعه من مثقفين عرب اُخذوا باللوثة الوهابية إياها، أو بلوثة الخيانة السعودية إياها وولي عهدها، محمد بن سلمان، ولكأن الشاعر الراحل نزار قباني كتب ما كتبه في الذكرى الخمسين للنكبة، وكأنه كتبها الآن:
سقطتْ آخرُ جدرانِ الحياءْ
وفرحْنا.. ورقصْنا..
وتباركْنا بتوقيعِ سلامِ الجبناءْ
لم يعُد يُرعِبُنا شيءٌ..
ولا يُخجِلُنا شيءٌ
فقد يبستْ فينا عروقُ الكبرياءْ
ويقولون لك إنهم قطعوا أي صلة بالمسألة الفلسطينية، ولعلنا هنا نتذكر الشاعر مظفر النواب الذي قال ذات يوم إن «خيال العرب يقف، استراتيجياً، عند ساقَيْ شهرزاد».. أو كيف سيحرّرون شهرزاد من ثيابها؟
ثمّة عدوان مبرمج على وطننا من أجل فلسطين، وهو أكبر منّا جميعاً. وإذا كنّا نتمتع بالحد الأدنى من المسؤولية في هذه «اللحظة الجنونية»، حيث تعقد «ورشة البحرين» بعد نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.. وتقديم بعض الضفة الغربية والجولان السورية هدية للاحتلال! إذا كنّا نتمتع بالحد الأدنى من المسؤولية فإن هذه المسؤولية تدعونا في أولى خطوة لنا هي أن نكسر المستحيل وأن نلتقي على حقيقة واحدة هي أن هذا الكيان الاستعماري الاغتصابي جاثمٌ على صدورنا. حينذاك تصبح كل الأمور الأخرى تفاصيل، ولا نعتقد أن الشيطان سيقبع سعيداً في هذا النوع من التفاصيل!
لنتذكر، لعل الذكرى تنفع… أحلام الهيمنة على المنطقة مستمرة لا تزال، بل هي لم تتوقف منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، وقد تحققت بعض هذه الأحلام مع سايكس بيكو، وبعدها مع وعد بلفور المشؤوم الذي دفع الجراد اليهودي من الجهات الأربع كافة إلى التجمع في فلسطين تحت وهم أسطورة «أرض الميعاد»، وها هي هذه الأحلام مستمرة وقد توقف قطارها في «ورشة البحرين».
هذه الأحلام المتجددة كانت قد دفعت هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركيّ الأسبق في الأيام الأخيرة حوار مع جريدة «دايلي سكايب» الأميركية إلى القول إنّه يتمنّى أن يشاهد حلمه يتحقّق في غزو «إسرائيل» لنصف منطقة الشرق الأوسط عند اندلاع الحرب العالمية الثالثة، واحتلال الأميركيين عبر حلف الناتو – دولاً عربية عدة في المنطقة وصولاً إلى روسيا وإيران وتركيا، وذلك تكريساً للهيمنة على العالم، عبر هذا الدور الصهيونيّ المرتقب، للإعلان عن «عالم أحاديّ القطبية»، تقوم فيه تلّ أبيب بالعدوان على أقاليم عدّة في جميع دول المنطقة تحت الغطاء الأميركي، وبعد الإعلان عن حلّ هيئة الأمم المتحدة، لمحاكاة تجربة فشل عصبة الأمم، والتفكير في منظمة دولية بديلة. يمكن تلخيص هذا السيناريو بـ «المنطق التطوّريّ الداروينيّ»… أي في انتقال واشنطن من المرحلة الاستئسادية إلى المرحلة الديناصورية!
في رأي وزير الخارجية الأميركي الأسبق أن أزمات المنطقة كلها وصلت الى «الحائط الأخير»… لا مجال للمعالجة الا بعمليات جراحية مبرمجة بدقة، وقابلة للحياة. استطراداً، حلّ الدول القائمة، وبلورة معايير محددة، وكذلك المفاهيم الايديولوجية، للولايات أو الكانتونات ، على أن تكون القفزة التالية باتجاه الدولة الكونفديرالية التي تمتد من جبال زاغروس إلى شاطئ المتوسط!
يتغابى العدو عما تكوّنَ فينا قبلَ أن يكونَ لهم مرْبَعٌ في بلادنا الممتدة منذ أكثر من عشرة آلاف سنة وحضارة معمّرة لم تنلْ منها معاول الوهابية التي خرجت من مؤخرة التاريخ.
أقول لك يا فلسطين، منذ انهمار ضوء يسوع على الكون كنتِ تتجوّلين في مقدّمة الهواء عندما كنتِ تلوحين يوماً بأكمام السماء كي تتلمّسي الظهيرة المشبعة بالأنفاس وهي تتمايلُ كلّ لحظة بظلال من الحب.
لا تزالين يا فلسطيننا قوساً روحياً أخضر يتعثر بلحية نبوخذ نصر وهو ينقشُ شعارات نصره على الشاطئ السوري، ويسبي اليهود وخرافاتهم ليعلمهم الزراعة والكتابة في بابل، ومن هناك سطّروا كتابهم «التوراة» بالمزامير والأساطير السورية.
تمرّ صور شهدائك أمامنا كشقائق النعمان تتدلّى حلماتها في فم النحل حين يسري الشهد بروح التاريخ الكنعاني وهو يخرجُ من خزانته رسائل حياة وحضارة.
لا تزالين يا فلسطين تشاكسين تاريخك المألوف في سوق عكاظ كأنّ سرّتك قيثارة بابل تعزفُ سيمفونية للإله مردوخ بعدما مرّت سنون وقرابين المعبد ولا تزالين تنسجين خيوط حريرك بنوافذ أحلامنا.
يقول الشاعر محمود درويش: «إننا ننسى أن السَجَّان هو، بصيغة ما، سجينٌ: إنه سجينٌ بلا أُفُق، ولا يحمل أيّ رسالة… أما السجين، فبالمقابل، يُغَنّي، وهو في أعماق نفسه يُحِسُّ بأنه أكثرُ حريةً من سجّانِهِ».
إلى الذين سيجلسون اليوم على «خوازيق» بيع ما تبقى وطنيتهم في «ورشة البحرين».. نقول لن نكون مثل العرب، نئد قضيتنا المقدّسة مثلما كان أهل الجاهلية يئدون بناتهم.. ولن تنحرف بوصلتنا عن المقاومة ولن نغرق في توافه التسويات، لإن الأمانة ننقلها من جيل إلى جيل، وإننا لعائدون، عائدون، عائدون!!
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/06/25