إيران في المواجهة... تفرض قواعد اشتباك ومعادلات ردع فاعلة
العميد د. أمين محمد حطيط
ظنّ الغرب بعد انهيار الاتحاد السوفياتي انّ الساحة الدولية خلت له وأنه أيّ الغرب بشكل عام وأميركا بشكل خاص لهم الحق بأن يقيّدوا العالم بأوامرهم وقوانينهم وبما يفرضونه من قواعد سلوك أو قواعد اشتباك. وتصرّف الغرب بقيادة أميركية بذهنية «الأمر لنا وعلى العالم الطاعة». وبهذا «المنطق الذي يرفضه منطق العدالة والسيادة والاستقلال الوطني»، بهذا المنطق خاضت أميركا وأحلافها القائمة او التي ركبت غبّ الطلب خاضت منذ العام 1990 أربع حروب الكويت أفغانستان – العراق لبنان وألزمت مجلس الأمن إما بتفويضها ابتداء أو بالتسليم لاحقاً بالأمر الواقع الذي أنتجته حروبها العدوانية.
اما إيران التي أطلقت في ظلّ ثورتها الإسلامية نظرية «الاستقلال الفعلي المحصّن بالقوة القادرة على حمايته« فقد تصدّت للمنطق الاستعماري الأميركي ورفضت الخضوع لمقتضياته، وجاهرت برفضها له وتمسّكها بحقها في السيادة والاستقلال الوطني، ليس هذا فقط، بل وأيضاً جاهرت بنصرة القضايا العادلة ومدّ يد العون للمظلومين ضحايا الغزو الاستعماري بوجوهه المتعدّدة والتي يشكل الاستعمار الاحتلالي التهجيري الذي تمارسه «إسرائيل» في فلسطين، الوجه الأبشع والأكثر ظلماً في ممارسات الاستعمار.
ولأنّ إيران رفضت ان تنصاع للاستعمار بأيّ صيغة من صيغ الإذعان التي أعدّها لها فقد اتخذ القرار الغربي بإسقاطها وشنّت عليها الحرب في الأشهر الأولى لنجاح ثورتها وإقامة دولتها الإسلامية… ولما فشلت الحرب في تحقيق أهدافها اعتمد الغرب الاستعماري سياسة الاحتواء والمحاصرة أسلوباً لمواجهتها.
وبالتالي فإنّ إيران الاستقلالية هذه وضعت بين شرّين: شرّ الاستتباع والهيمنة كما هي حال جوارها في دول الخليج، وشرّ التضييق والحصار للتركيع عبر ما يسمّى العقوبات، وبينهما اختارت إيران الشرّ الأدنى لأنها توقن «انّ جوع مع كرامة وسيادة أفضل من عبودية وتبعية مع وعد بالتساهل الاقتصادي». ومع هذا الاختيار حوّلت التحدي الى فرصة استغلتها من أجل تنمية اقتصادها سعياً لتحقيق الاكتفاء الذاتي الممكن.
استطاعت إيران ان تصمد طيلة الأربعين عاماً الماضية الى ان وصلت اليوم لموقع بالغ الحرج والخطورة حيث فرض عليها اختيار جديد، يخيّرها بين التنازل عن حقوقها استجابة لقرار أميركي ينتهك هذه الحقوق، او المواجهة المفتوحة مع ما يمكن ان تتطوّر فيه وصولاً الى الحرب. اختبار بدأه ترامب بالخروج من الاتفاق النووي وأكده موقف أوروبي متخاذل عن حماية هذا الاتفاق.
تدرك إيران انّ الخضوع للرئيس الأميركي ترامب في مطالبه يعني بكلّ بساطة التنكّر للثورة وتغيير طبيعة النظام الاستقلالي والعودة الى مقاعد الدول التي تفرض أميركا هيمنتها عليها، اما المواجهة فإنها مع مخاطرها تختزن آمالاً كبيرة بتحقيق النجاح وتثبيت المواقع الاستقلالية، ولهذا اختارت إيران ان تتمسك بحقوقها واستقلالها وان تعدّ لكلّ احتمال مقتضياته، وهذا القرار هو الأساس الذي تبني عليه إيران كلّ سياستها.
ويبدو انّ أميركا صُدمت بالقرار الإيراني فراحت تهوّل على إيران بالحرب وعملت على تشكيل أحلاف دولية للعدوان عليها بدءاً بـ «حلف الناتو العربي» واجتماع وارسو الذي دعت اليه للتحشيد ضدّ إيران، وصولاً الى فكرة الحلف البحري في الخليج لمحاصرة إيران، ثم شرعت بتحريك ونقل قوات عسكرية الى السعودية للإيحاء بأنّ الخيار العسكري لمواجهة إيران هو خيار جدي وقريب…
كلّ هذا لم يرعب إيران ولم يهزّ ثقتها بنفسها لا بل تعاملت مع المستجدات بموقف أذهل أميركا وحلفاءها حيث كان إسقاط إيران لطائرة التجسّس الأميركية ثم كان احتجازها لباخرة بريطانية انتهكت مقابل الشاطئ الإيراني قواعد الملاحة الدولية ثم كان اعتقال 17 جاسوس أميركي في إيران ومحاكمتهم…
قامت يران بكلّ ذلك في إطار تنفيذ استراتيجية دفاعية تثبت فيها أنها صحيح لا تسعى الى الحرب ولكنها أيضاً لا تتهيّب المواجهة إذا فرضت عليها، ولهذا أعدّت إيران نفسها للدفاع وأطلقت مع حلفائها «استراتيجية الحرب المفتوحة والمواجهة الشاملة على كلّ الجبهات» وحضرت نفسها للأكثر سوءاً. ما جعل أميركا تدرك انّ لعبتها على حافة الفشل والانهيار الأمر الذي جعلها تتراجع قليلاً وتأمر بريطانيا بفعل شيء ما ضدّ إيران فاستجابت ونفذت عملية قرصنة ضدّ باخرة نفط إيرانية كانت تعبر مضيق جبل طارق. وارتكبت بذلك عملاً غير مشروع ومخالف لأحكام القانون الدولي العام بما فيه أحكام الملاحة الدولية ويصنّف بأنه عدوان على إيران بكلّ المعايير.
تصوّرت أميركا وبريطانيا أنهما ستلويان ذراع إيران وتجبرانها على وقف تصدير نفطها، لكن الردّ الإيراني جاء معاكساً للتوقع الانكلوسكسوني، ردّ حصل على وفقاً لمبدأ «السن بالسن والعين بالعين والبادئ أظلم«، وترجم باحتجاز الباخرة البريطانية التي كاث تعبر مضيق هرمز.
انّ احتجاز إيران للباخرة البريطانية بعد أيام من إسقاط طائرة التجسّس الأميركية فوق النطاق الإقليمي الإيراني يشكل خطوة نوعيه في المواجهة من شأنها ان تفرض إيقاعها على الكثير من العلاقات الدولية التي يكون الغرب طرفاً فيها. وفيها من الدلالات فوق ما كان يتوقع او يتخيّل أحد من ساسة الغرب عامة وأميركا وبريطانيا خاصة دلالات يمكن ذكر بعضها كالتالي:
1 ـ رسم الفعل الإيراني قواعد اشتباك جديدة في العلاقة مع الخصوم والأعداء، قواعد قائمة على «الردّ المناسب في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة»، ينفذ تطبيقاً لقاعدة أساسية في قانون الحرب هي «قاعدة التناسب والضرورة». فإيران وفقاً لهذا المبدأ لا تعتدي ولا تبادر الى عمل ميداني إنْ لم يكن مسبوقاً بعدوان عليها، كما انّ إيران لن تسكت عن أيّ عدوان يستهدفها.
2 ـ أسقطت إيران الهيبة الأميركية والبريطانية وهذا أمر بالغ الخطورة بالنسبة لاثنتين من مجموعة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. وأكدت أنها لا تخشى ما هم عليه من قوّة، وبأن عليهم اعتماد الحسابات الدقيقة في مواجهتها وإلا كانت الخسارة المؤكدة.
3 ـ أكدت إيران انها عصية على الحرب النفسية وأنها واثقة من قدراتها الدفاعية الذاتية وإنها أيضاً مطمئنة لتحالفاتها الإقليمية والدولية. وأنها لا تتهيّب مواجهة عسكرية مع انها لا تسعى اليها.
4 ـ أكدت إيران احترامها للقانون الدولي وفقاً للتفسير الموضوعي الصحيح، وترفض أيّ تفسير منحرف وعدواني على حقوق الغير.
5 ـ أرست إيران معادلة ردع متبادل فاعل في مواجهة الخارج عامة وأميركا ومن يتبعها خاصة، معادلة جديدة تقوم مكان مبدأ الردع الأحادي الذي تفرضه أميركا في العالم وتمنع أحداً من الدول من مواجهتها حتى ولو كانت المواجهة دفاعاً عن النفس.
انّ مفاعيل ما تقوم به إيران يتعدّى إطار العلاقة البينية مع أميركا وبريطانيا ويتمدّد ليصبغ العلاقات الدولية كلها وليفرض نمطاً جديداً فيها قائماً على الثقة بالنفس وكسر قيود الهيبة الغربية التي بها فرض الاستعمار إرادته وبها أخضعت الدول وبها سرقت أموال الشعوب وحقوقهم، وعندما تكسر الهيبة تلك ستخلع أنياب الغرب وسيظهر مدى عجز دوله عسكرياً عن القبض على قرارات الشعوب والدول. وعندها سيفتح الطريق واسعاً أمام من يريد الحرية الحقيقية والاستقلال الفعلي الناجز والتمتع الكامل بثرواته.
وبكلمة أخرى نقول انّ إيران اليوم ترسم مشهداً دولياً استراتيجياً هاماً يتعدّى القول بمعادلة الطائرة بالطائرة والباخرة بالباخرة وهي تواجه معسكر الاستعمار بالأصالة عن نفسها والنيابة عن أحرار العالم ومظلوميه، وهنا تكمن أهمية المواجهة التي ستكشف انّ الخوف من الغرب كان قائماً على وهم وخيال أكثر منه على حقيقة وواقع، فالغرب لا يملك الجيوش التي تمكّنه من السيطرة على الكرة الأرضية لكن ضعف الآخر وعدم أخلاقية الغرب مكّنه من السيطرة، والآن تقوم إيران بكسر هذه الهيبة وتشجع الآخرين على المواجهة بعد الإعداد الصحيح لها وامتلاك الثقة بالنفس… وليعلم الجميع انّ الغرب سيحجم عن الحرب عندما يلمس انّ الآخر مستعدّ لها وقادر على خوضها… كما هي حال إيران ومحور المقاومة اليوم… وبهذا نفهم ما قاله بومبيو لبريطانيا «احموا سفنكم بأنفسكم فلسنا مستعدّين للحرب مع إيران».
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/07/23