النظام الرسمي العربي والكيان الصهيوني توأمان ولدا من رحم الاستعمارين البريطاني والفرنسي ونشآ وترعرعا في كنفهما..
د. عبد الحي زلوم
أثناء الحرب العالمية الأولى وبين سنتي 1915 و 1917 تمت إتفاقية سايكس بيكو و إعلان مصر محمية بريطانية ومنها انطلق جيش اللورد اللنبي لاحتلال فلسطين ومعه فيلق يهودي بقيادة فلاديمير جابوتنسكي الأب الروحي لحزب الليكود لاحقاً. عند احتلال القدس في أواخر سنة 1917 كانت خيمة حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في معسكر الجيش الانجليزي في مدينة اللد بفلسطين بجانب خيمة الجنرال اللنبي والذي كان صهيونيا مسيحيا حتى العظم. دعى اللنبي وايزمان ليرافقه إلى القدس بعد احتلالها لكن وايزمان أعلمه أن ذلك سيكون إستفزازا ليس وقته. دخل اللنبي القدس وقال قولته المشهورة ” الآن إنتهت الحروب الصليبية” . لكنها لم تنتهي ، فالصهاينة اليهود والصهاينة البروتستانت يشنون حرب اجيال اسماها جيمس وولسي الحرب العالمية الرابعة واسماها جورج دبليو بوش بإسمها دون مواربة بأنها حرب صليبية قبل أن يُصبح اسمها التسويقي “الحرب على الإرهاب” . في السنتين إياهما أعلاه أنهى سايكس وبيكو تقسيماتهما للوطن العربي وبدأت مسيرة تكوين كيانات سايكس بيكو والكيان الصهيوني برعاية الاحتلال المباشر، تم خلاله بناء هياكل الدولة الوظيفية. باشروا بتجهيل جيل كامل غسلوا دماغه وشوهوا صورة حضارته وتاريخه. نصّب المستعمرون من اختاروا من القبائل والعوائل وأشعلوا النعرات المذهبية و والطائفية والقبلية والعرقية و السياسية. أسسوا جيوشًا لتدافع عن الوصف الوظيفي للنظام لا للدفاع عن الأوطان ولذلك خسرت هذه الجيوش كل حروبها إلا ضد شعوبها.
بعد الحرب العالمية الثانية وانتقال الامبراطورية الرأسمالية الانغلوساكسونية من بريطانيا للولايات المتحدة وبتوفر وسائل الاتصال والإدارة الحديثة قررت الامبراطورية الأمريكية الجديدة منح (الاستقلال الاسمي) للمستعمرات واستحداث نوع جديد من الاستعمار الخبيث بوسائل مبتكرة عن طريق التبعية الاقتصادية والشركات العابرة للقارات وأكثرها اكبر من الدول حديثة الاستقلال. المهم للاستعمار هو العنب وليس الناطور ما دام يقوم بدوره الوظيفي! هكذا جاءنا الاستقلال مع نواطيره! وهكذا كان لكل مكونات التوأمين الوظيفيين وظيفته ، وكانت الوظائف مكملة بعضها بعضاً تَعْزِفُ دوما ًعلى إيقاع المايسترو من وراء البحار.
عشية تصويت الأمم المتحدة على قرار التقسيم، رفعت استخبارات الهاغاناه للوكالة اليهودية بفلسطين تقريرها التقييمي عن الميزان العسكري جاء فيه أنه في حالة اختار العرب الحرب فإن الدول العربية أبعد ما تكون عن التوحد، وعرب فلسطين أبعد ما يكونوا عن الاستعداد للحرب.. فقد كانوا يفتقرون تماماً للموارد المالية اللازمة مقابل مصادر مالية مفتوحة تحت إمرة يهود فلسطين.
على الجانب العربي لعبت الأنظمة العربية آنذاك دوراً أساسيا في انتصار اليهود وتكوين كيانهم. كانت الدول العربية الخارجة تواً من الانتداب البريطاني والفرنسي ضعيفة عسكرياً واقتصادياً وحتى معنوياً، ناهيك عن التمزق والتناحر السائد في العلاقات فيما بينها. وبالمقابل كان لليهود حكومتهم داخل حكومة الانتداب البريطانية قائمة بالفعل بمؤسسات متكاملة. استعداداً للحرب أقامت الوكالة اليهودية صناعات عسكرية سرية بمساعدة ومعرفة سلطات الانتداب البريطاني وضعتها في المستوطنات المنتشرة في مواقع عدة بينما كان يحكم بإعدام أي عربي فلسطيني يملك مسدساً. كانت صناعة السلاح تحت إدارة الهاغاناه قد أنتجت خلال الفترة مابين 1 أكتوبر 1947 و31 مايو 1948 ما مجموعه 15468 بندقية رشاشة نوع ستين، و200 ألف قنبلة يدوية، 125 مدفع مورتر مع 130 ألف قذيفة، وحوالي 40 مليون رصاصة لاستخدام الرشاش ستين.
كان للهاغاناه جيشا نظاميا بمعنى الكلمة له رئاسة أركان وأفرع متخصصة بما فيها الاستخبارات، والقوة البشرية، واللوازم والوحدات الطبية. في المقابل كان الفلسطينيون يفتقرون لكل شيء. بحلول مايو 1948 كانت الهاغاناه قد نشرت 12 فرقة منها ثلاث مشاة واثنتان مدرعة. في غضون ذلك كانت الصورة على الجانب العربي تدعو إلى الرثاء.
تعمدت القيادة العسكرية المشتركة بقيادة اللواء إسماعيل صفوت التي أنشأتها الجامعة العربية والتي أنشأها الانجليز كانت باكورة أعمالها إدارة مسرحية حرب فلسطين. بعد نفاذ ذخيرته جاء المجاهد الفلسطيني عبد القادر الحسيني لمقابلة اللواء إسماعيل صفوت طالباً المساعدة. رفض اللواء إسماعيل طلبه قائلا إن تحرير فلسطين هي مهمة الجيوش العربية فقط.
عاد المجاهد الكبير الحسيني إلى القدس محبطاً مع أنه كان قد حقق عدة انتصارات على اليهود في محيط القدس ، إلا أنه استشهد في معركة النبي صامويل بعد نفاذ ذخيرته.
حسب المؤرخين الصهاينة كانت القوة العربية الوحيدة التي يحسب لها اليهود حساباً في ذلك الوقت هي فيلق الجيش العربي الأردني. غير أن تلك القوة كانت تحت قيادة بريطانية بالكامل وتتلقى تمويلها من البريطانيين.
هُزمت الجيوش العربية في مسرحية كان أبطالها جيوش الدول الوظيفية. لكن كان هناك بطولات فردية من ضباط وأفراد تلك الجيوش خلافاً لأوامر قياداتها . وهذه بعض الأمثلة. قبل حرب 1948 أثناء الانتداب البريطاني كانت قوة من الجيش العربي الأردني تعمل في فلسطين تحت أمرة الفرقة التاسعة من الجيش البريطاني وكانت تعمل في حراسة المؤسسات كميناء حيفا وبعض المعسكرات البريطانية . في تلك الأثناء كان المجاهدون الفلسطينيون يحاربون العصابات الصهيونية التي أصبحت نواة جيش الاحتلال بعد أيار 1948. عن تلك الأثناء كتب لنا المرحوم صالح الشرع (وكان من كبار قادة الجيش الأردني) كتاباً قيما بعنوان “مذكرات جندي” جاء في ( ص.27) حكاية هروب ستة من جنود الجيش العربي الأردني الذين كانوا في فلسطين. كتب القائد الشرع: ” وجدت في قيادة المجاهد الفلسطيني حسن سلامة ستة جنود من الجيش الأردني كانوا قد هربوا من الجيش بأسلحتهم والتحقوا بالمناضلين. حيوني بالتحية العسكرية وجاء احدهم يسلم علي واسمه دغيليب وهو من عشائر الحويطات . جاء زملاؤه وسلموا علي … وعندما سألتهم عن سبب هروبهم من الجيش قالوا نريد أن نحارب اليهود . قلت لهم : إننا كلنا سنحارب اليهود بعد خروج الانجليز من فلسطين قريباً . قالوا إنهم استعجلوا وهربوا وطالما أن الأمر كذلك وأن الجيش والمناضلين سيتعاونون فإنهم يرجون أن أعمل على إعادتهم للجيش ، وإصدار العفو عنهم. وبناء على طلبهم وموافقة السيد حسن سلامة توسطت لهم مع القيادة وتم العفو عنهم وعادوا لصفوف الجيش كما كانوا. دغيليب هذا نقل إلى الكتيبة الثانية واستشهد في القدس ” رحم الله دغيليب ومن سار على خطاه وعلى العشيرة التي انجبته.
دخل الجيش العربي الأردني إلى حرب فلسطين سنة 1948 وقائد الجيش ورئيس أركانه وكافة قادة فرقه من الانجليز . فكيف يمكن للانجليز الذين عملوا وعد بلفور لإنشاء دولة صهيونية في فلسطين أن يحاربوا تلك الدولة التي رعوا بنيتها التحتية والفوقية مدة 30 عاماً أثناء الانتداب البريطاني؟ وبالرغم من ذلك كان هناك انتصارات أكثرها قام بها ضباط أردنيون وطنيون بالرغم من رؤسائهم الانجليز. ففي معركة باب الواد (بين القدس ويافا ) حطم الجيش الأردني القوة اليهودية واسروا قائدها أرييل شارون والعديد من جنوده وأخذوهم أسرى إلى شرق الأردن . والمؤسف أنه تم مبادلتهم بعدد مماثل من المزارعين الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم على عجل لإتمام عملية المبادلة فأصبح أرييل شارون رئيساً لوزراء دولة الاحتلال وهو الذي قاد جيش الاحتلال لعمل الثغرة في الدفرسوار وتطويق الجيش الثاني المصري في حرب أكتوبر 1973!
ومثالٌ آخر ، قام قائد سرية من الجيش العربي الأردني بحرب 1948 بمخالفة أوامر الضابط البريطاني ودخلوا في القدس الغربية حتى وصلوا المستشفى الفرنسي ونتوردام وهما موقعان استراتيجيان يطلان على القدس الشرقية والغربية . جاءت الأوامر من القائد البريطاني أن عليهم الانسحاب وبعد استمرارهم في التقدم حذرهم بأنه سيقوم بقصفهم بالمدفعية إذا لم يرجعوا فوراً. بعد رجوع قائد السرية تم اعتقاله وإرجاعهِ من القدس إلى الضفة الشرقية مخفوراً لتتم محاكمته عسكرياً .
أما عن الجيش العراقي في حرب فلسطين فجاء في الكتاب المذكور أعلاه: ” في 3/2/1949 نشبت معركة محلية بين كتيبة عراقية في منطقة كفر قاسم (فلسطين) واليهود في رأس العين . كان قائد الكتيبة المقدم عبد الكريم قاسم(رئيس الجمهورية العراقية لاحقاً) وقد قابلته لمعرفة تفصيلات المعركة وعرفت أنه احتل موقع رأس العين من اليهود ومرزعة مجاورة كانوا يتمركزون فيها. وامتنع عن الخروج من هناك رغم قيام الهدنة . وحينما جاء أمر الانسحاب من قائد لوائه الزعيم نجيب الربيعي أجاب عبد الكريم قاسم على برقيته قائلاً : أنا لا انسحب إلا إلى بغداد ، وبقي في مكانه إلى أن انسحب الجيش العراقي عائداً إلى بغداد … في9/3/1949 تقرر سحب الجيش العراقي بعد اتفاقيات رودس . تقرر أن تستلم الكتيبة الخامسة من الجيش الأردني مكان الأماكن المتقدمة من الجيش العراقي وقوامها فرقة ! … في 13/5/1949 أخذتُ قادة سرايا الكتيبة وأجرينا الكشف على المنطقة في باقة الغربية إلى كفر قاسم . وكان قائد الكتيبة العراقية عبد الكريم قاسم.
سألني عن معلومات عن اتفاقية رودس وهل ستكون قرية كفر قاسم داخلة في الحيز اليهودي بموجب تلك الاتفاقية … فأجبته بالإيجاب … فنادى على أحد السرايا وطلب فئة الاشغال وكانت في كفرقاسم مقبرة صغيرة تضم اثنين وعشرين شهيداً سقطوا أثناء معركة رأس العين وفي حوادث متفرقة أخرى ، فأمر بفتح قبورهم وإخراج جثثهم ونقلها إلى مقبرة الشهداء العراقيين الواقعة على مفرق طريق جنين – قباطياً ، وقال: أنا أسلمكم المواقع ولكني لا اترك جنودي الأموات لتدنس مقابرهم أقدام اليهود . كان أمام قيادة الكتيبة تمثال إقامته الكتيبة يسمونه تمثال النصر . أمر بهدمه وتم ذلك أيضاً ” في سلسلة المآسي التي واكبت حرب فلسطين الأولى أنه ” في اتفاقية رودس بين شرق الأردن والكيان الصهيوني الوليد تم تسليم 212 ألف دونم تضم سبعة عشر قرية دون أي قتال مع اليهود.”
أما مصر فجاءت منها كتائب المتطوعين من الإخوان المسلمين وغيرهم . وابلوا بلاءً حسناً بالرغم من إمكانياتهم الضعيفة. كما جاء الجيش المصري وقصة أسلحته الفاسدة المعروفة مما سببت هزائمه. والقصص تطول.
تآمر النظام الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني ليس استقراءا للأحداث فقط لكن دعني اقتبس ما كتبه الجنرال جون باغوت غلوب والذي كان قائد الجيش العربي الأردني إبان حرب 1948 ” لم يكن المسئولون العرب جادين في الذهاب للحرب.. إلا أنهم دخلوا ( فلسطين) في النهاية وأمروا قادتهم العسكريين بالتقدم تحت وطأة الضغوط الشعبية والرغبة في تهدئة الشارع”. وهكذا ” قَطَعَتْ جُهَيْنَةُ قَوْلَ كُلِّ خَطِيْبٍ “.
التطبيع اليوم هو مجرد الانتقال من التأخي السري بين توأمي الاستعمار إلى حلفٍ علني لا أكثر ولا أقل. وإذا عُرف السبب بطَل العجب.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/07/25