مئوية «لبنان الكبير» والمتغيرات الأكبر!
سعد الله مزرعاني
أطلق الرئيس ميشال عون «احتفالية» «لبنان الكبير» بمناسبة دخول إعلان مشروع بلدنا التأسيسي مئويته الأولى ابتداءً من بداية أيلول الجاري. حمل الاهتمام والتبكير في إطلاق الاحتفالية دلالات عديدة في الشكل وفي المضمون. الاحتفالية تقع فعلياً في سياق يواظب فيه الرئيس عون وتياره على سياسة رفع شعار «استعادة الحقوق»، والتفاخر بما أنجزاه في هذا السياق على مستوى النفوذ في مؤسسات السلطة والإدارة كافة: في الوطن والمغتربات. «المناصفة» بالمعنى الشامل للكلمة، هي الشعار التنفيذي الأبرز، ولو اقتضى الأمر (فضلاً عن رفض وتعطيل البنود الإصلاحية في الدستور) ارتكاب مخالفة دستورية فجّة، كما حصل ويحصل بالنسبة إلى مباريات مجلس الخدمة المدنية المعطَّلة بقرار وضغط الرئيس عون وفريقه، بذريعة عدم المساواة في أعداد الناجحين، ما بين المسلمين والمسيحيين. قبل ذلك جرت، ولا تزال، ورشة تطييف لم يسلم منها حقل من حقول السياسة والإدارة، ولا حتى، خصوصاً الشكليات، للتأكيد أن «بعبدا» هي «مركز القرار»، وأن «الصلاحيات» ينبغي أن تستعاد، وأن ثمة تعديلات على الدستور ينبغي إنجازها. توجيه رسالة الرئيس إلى مجلس النواب، بغرض طلب «تفسير» المادة 95 من الدستور، معطوفة على طعن «التيار الوطني الحر» في المادة 80 من الموازنة، يسيران في خدمة الهدف نفسه. والهدف هو استحثاث الخطى والمحاولات، وتوليد الأجواء والمناسبات، وتسخير العلاقات والسياسات، من أجل استعادة توازنات ما قبل إقرار «اتفاق الطائف» والحرب والأهلية التي أدت إليه: أي استعادة مرحلة الامتيازات التي وصفت في السجال الدائر قبل شهور، من قبل الفريق العوني، بأنها كانت مجرد «ضمانات» فحسب!
في هذا السياق ولخدمته تأتي عملية إطلاق الاحتفالية، وعلى مدى سنة، من أجل تعزيز وتوفير الشروط الكفيلة بالمضي قدماً في رحلة الحنين إلى الماضي الذي قد مضى وزال العديد من الشروط التي أوجدته ووفرت استمراريته لعقود أربعة.
في خطاب إطلاق الاحتفالية هاجم الرئيس عون الأتراك العثمانيين بحدة استثنائية. لكنه، بالمقابل، أشاد صراحة أو ضمناً بالفرنسيين الذين أعلنوا هم دولة «لبنان الكبير». وهم من أعلن دستورها بعد ست سنوات من ذلك. وهم من أرسى صيغتها وتوازناتها حتى الاستقلال بعد 23 سنة، أي عام 1943. وهم، بالأساس أيضاً، من قدَّم ممثلي الموارنة على سواهم وصولاً إلى تسليمهم مواقع القرار الإداري والسياسي والأمني والاقتصادي الأساسية...
يؤكد المؤرخ الراحل المرموق كمال الصليبي أن لبنان لم يكن تاريخياً ذا كيان متبلور. وهو اتخذ الصيغة الراهنة برعاية من الانتداب الفرنسي، وبإلحاح ومثابرة من الأكليروس الماروني وسياسيين موارنة من الاتجاه نفسه. هؤلاء نشطوا جميعاً بهدف إقامة كيان خاص و«فريد». نظَّر المفكر والأديب والمصرفي الراحل ميشال شيحا لهذا الكيان ولبنائه على أسس التمثيل الطائفي والمذهبي بأرجحية حاسمة للمكوِّن الماروني وبرعاية أجنبية ثابتة...
حضور العامل الطائفي المذهبي في السياق التاريخي، وفي ظروف محدَّدة، لا يعني تبنّيه وتحويله هويةً وانتماءً سياسيين
دور الانتداب الفرنسي الحاسم في إنشاء الكيان وفرض توازناته كان مدعاة إحساس عميق بالشكر والامتنان من قبل الموارنة لفرنسا التي سمِّيت «الأم الحنون». أكثر من ذلك، فلقد تغذى شعور بالانتماء والولاء لفرنسا خصوصاً وللغرب عموماً في الأوساط المارونية. عُبِّرَ عن ذلك بصيغ ومعادلات عديدة: لبنان ذو «وجه عربي» فقط. طلب الحماية الفرنسية والغربية عموماً، بما في ذلك الالتحاق بالأحلاف والمشاريع الاستعمارية على قاعدة أن لبنان «بالتبعية يعتز وبالاستقلال يهتز» كما كتب السياسي والمفكر الراحل إدوار حنين الذي كان أميناً عاماً لـ«الجبهة اللبنانية» في المراحل الأُولى من الحرب الأهلية (1975-1990).
استمدت «الصيغة» اللبنانية «فرادتها»، أيضاً، من الأرجحية البسيطة، آنذاك، في العدد للمسيحيين على المسلمين. كانت تلك الأرجحية موجودة خلافاً لما هو الوضع عليه في كل البلدان الأخرى، العربية والإسلامية، في المنطقة. كان شائعاً إقامة أنظمة حكم على أساس ديني في المنطقة، في السعودية واليمن والعراق والأردن والمغرب... وبالنسبة إلى لبنان اعتمدت «الصيغة الفريدة» أي الطائفية، بأغلبية وأرجحية مارونية. زد على ذلك بضعة قرون من تشكُّل الأقليات الطوائفية في صيغة هويات.. للحماية ضد الاستهداف والقمع والاضطهاد...
الدول الغربية التي أقامت، منذ انتصار الثورة البورجوازية فيها (في أواسط الألفية الماضية)، ثورة التصنيع والإنتاج ووسائله، ومن ثم التوسع والمنافسة بحثاً عن الأسواق والموارد الأولية، فرضت في بلدانها فصل الدين عن الدولة أو أقامت ملكيات دستورية مقيّدة وصنَّفت الحقوق الفردية في التفكير والمعتقد حقوقاً أساسية...
هذه الدول نفسها لجأت إلى عكس ذلك في البلدان التي استعمرتها لجهة تكريس الصيغ القديمة وتغذية الانقسامات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية والقومية في امتداد سياسة «فرِّق تسد» الإنجليزية المنشأ.
حضور العامل الطائفي المذهبي في السياق التاريخي، وفي ظروف محدَّدة، لا يعني تبنّيه وتحويله هويةً وانتماءً سياسيين بديلين من الانتماءات الوطنية خصوصاً. ثم إن التوازن والصيغة اللذين أملتهما أسباب وظروف وعوامل معينة لا يمكن أن يستمرا بعد تبدُّل تلك الظروف والأسباب والعوامل. بالنسبة إلى لبنان، وبعد نحو ثلاثة أرباع القرن على الاستقلال و«الصيغة الفريدة»، تحولت التوازنات بشكل شديد الاختلال لمصلحة قوى جديدة: سواءً بالنسبة إلى الدور الخارجي، أو إلى جهة النسب الديموغرافية والتوازنات الداخلية عموماً. ورغم ازدياد منسوب التطييف والتمذهب في المرحلة الراهنة، إلا أن الأخذ بالقاعدة (أي الأداة) الطائفية لتوزيع النفوذ والإدارة سيكون محفوفاً، فضلاً عن التوترات والانقسامات والشلل والتعطيل، بتقلبات تتجاوز ما كان قائماً من امتيازات قديمة أو جديدة، بما فيها بقايا «المناصفة»، أو حتى حلول امتيازات نقيضة، وربما هيمنة واستئثار وتفرد...
تغيير التوازنات والمعادلات لم يمر ولا يمر بشكل سلمي غالباً. تفاعل الوضع اللبناني الداخلي مع صراعات المنطقة وارتباط القوى المحلية بمرجعيات خارجية، ببعد طائفي أو مذهبي، قد يكونان أيضاً سبباً من أسباب توليد صراعات جديدة يكون العنف فيها هو سيد الموقف.
تقف اليوم الصيغة الطائفية، واستخدامها على أوسع نطاق لإقامة منظومة محاصصة شاملة ووقحة ومتجاوزة، عائقاً أمام استقرار البلاد وأمام بناء مؤسساتها على قواعد سويَّة في التمثيل والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية: بعيداً عن الفئوية والتحاصص والنهب والفساد والتبعية...
سقط أساس نظام الامتيازات. الحل ليس بالتمسّك به أو بامتيازات نقيضة في نطاق المنظومة نفسها. الحل بنظام مساواة بين المواطنين: نظام عصري يكون فيه الدستور والقانون واحترامهما فوق كل فئوية داخلية أو إملاء خارجي. المواطنة المتساوية، المحصنة بدولة قانون ومؤسسات، هي فقط الحَكَم بين اللبنانيين والضمانة لهم جميعاً.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/09/14