بقيق السعودية: حزام من الرمال الذهبية المتحركة
علي آل غراش
تقع مدينة بقيق الصغيرة والهادئة والمنسية شرق السعودية، وقد تحولت خلال الأيام القليلة الماضية إلى أشهر اسم وتصدرت وسائل الإعلام العالمية بعد تعرضها للقصف في 14 أيلول/سبتمبر من قبل قوات أنصار الله “الحوثيين” بواسطة طائرات مسيرة بالإضافة إلى استهداف هجرة خريص، بدون وقوع أي إصابات بين العاملين. ويأتي الاهتمام العالمي بمدينتي بقيق وهجرة خريص لأن الموقعين من أهم المنشآت النفطية التابعة لشركة أرامكو، حيث ان بقيق من أهم وأكبر المنشآت لتكرير النفط في السعودية بل في العالم، كما ان هجرة خريص تحتوي على حقل نفطي كبير لإنتاج البترول الخفيف.
وحول سبب استهداف الموقعين بسلاح الجو المسير قال المتحدث باسم القوات اليمنية المسلحة التابعة لحكومة صنعاء العميد يحيى سريع: “إن هذه العملية تأتي في إطار حقنا المشروع والطبيعي في الرد على جرائم العدوان وحصاره المستمر على بلدنا منذ 5 سنوات” مضيفا أن العمليات المقبلة ستتوسع وستكون أشد إيلاما، حتى يتوقف النظام السعودي عن عدوانه.
الاستهداف
عملية استهداف بقيق وخريص تعتبر الأعنف على الأراضي السعودية منذ شن تحالف الرياض الحرب ضد جماعة الحوثي منذ قبل نحو 5 سنوات باسم “عاصفة الحزم” بمبرر عودة الحكومة الشرعية برئاسة عبدربه منصور هادي. وشكل الهجوم ضربة موجعة ومؤثرة لسلطات الرياض لأنها استهدفت البنية التحتية للمصدر الاقتصادي الأهم في البلاد التي تعتمد على واردات النفط، حيث تنتج السعودية نحو 11 مليون برميل يوميا، وقد أدت الضربات إلى توقف تدفق الإمدادات النفطية بنحو 5.7 ملايين برميل يومياً، حوالي 50 في المئة من إنتاج الشركة للزيت الخام وإمدادات غاز الإيثان وسوائل الغاز الطبيعي، أي ما يعادل قرابة 6 في المئة من إمدادات الخام العالمية، مما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط بنحو 20 في المئة مسجلا أعلى ارتفاع منذ عام 1991. ونتيجة لهذه العملية التي هزت أركان النظام السعودي واحرجته أمام العالم، فقد طالبت الرياض بتحقيق دولي فيها. وبعد الاستهداف غطت الأدخنة السوداء سماء الأحساء.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها بقيق للاستهداف، ففي 24 شباط/فبراير 2006 تمكنت القوات الأمنية من إحباط عملية إرهابية عبر هجومين انتحاريين بسيارتين مفخختين من قبل تنظيم “القاعدة” على معمل بقيق النفطي، أدى إلى مقتل اثنين من الإرهابيين واستشهاد 2 من الجنود وإصابة عدد منهم.
والسؤال المطروح الآن هو هل ستؤدي عملية استهداف بقيق إلى توسع الحرب في اليمن لتشمل منطقة الخليج وأبعد، أم سيتحرك المجتمع الدولي لإنهاء الحرب في اليمن عبر الحلول السلمية والدبلوماسية؟
الاسم والتاريخ
تقع بقيق شرق السعودية في منتصف الطريق السريع بين مدينة الدمام والهفوف، وتبعد عن ساحل الخليج العربي بنحو 30 كلم، وهي مدينة صغيرة وهادئة ومنسية، يلفها حزام من الرمال الذهبية الناعمة المتحركة من كافة الاتجاهات. أوجدتها شركة أرامكو مع بداية اكتشاف النفط في الأربعينيات من القرن الماضي، وتكمن أهميتها في وجود أكبر معمل لتكرير النفط في العالم، فهي مركز رئيسي لشركة أرامكو النفطية لما يسمى بأعمال المنطقة الجنوبية الغنية بالزيت والغاز، وهي الخاضعة ضمن الحدود الإدارية لمنطقة الأحساء، حيث يقع فيها حقل غوار الأكبر في العالم وحقل خريص وشيبة وغيرها، كما انها الإدارة التي تشرف على المنشآت لشركة أرامكو مثل شدقم والعضيلية والعثمانية وشيبة وحرض وخريص ومحاسن بالمبرز.
تعود تسمية بقيق إلى وجود منطقة إلى الشمال منها تسمى بقة، وهي عبارة عن منبع ماء. وقيل إن اسم بقيق يعود لانتشار حشرة البق في المنطقة. وتتكون بقيق من قسمين: بقيق أرامكو، وتقع في الجهة الشرقية والشمالية وهي المدينة التي أسستها شركة أرامكو في الأربعينيات، وتعتبر خاصة بالشركة، وهي مدينة متكاملة نموذجية راقية، تحتوي على مساكن خاصة لموظفي الشركة انشئت عندما قررت أرامكو في بدايتها بناء أربع مدن نموذجية متكاملة في مواقع العمل الرئيسية: الظهران، ورأس تنورة، والعضيلية بالإضافة إلى بقيق. ويحتوي المجمع على قسمين رئيسيين: سكن خاص للعوائل “السنير” وهي أشبه ما تكون بأحياء المدن الأمريكية الراقية، وقسم خاص بالعزاب، وكل قسم يحتوي على كل المستلزمات الضرورية والترفيهية من مطاعم وملاعب ومسابح وسينما وغيرها.
وتقع في بقيق أرامكو أهم معامل الشركة الضخمة التي تأسست عام 1933 باسم شركة كاليفورنيا العربية للزيت القياسي، وفي عام 1944 تغير الاسم إلى شركة الزيت العربية الأمريكية أرامكو، ثم تحول الاسم إلى شركة أرامكو السعودية في عام 1988 ويقع مقرها الرئيسي في مدينة الظهران. ولدى أرامكو أكثر من 70 ألفا ما بين موظف وعامل تابعين لها، ونحو 100 ألف موظف وعامل تابعين لمقاولين يعملون للشركة.
وتضخ معامل بقيق معظم النفط السعودي الذي يقدر بنحو 11 مليون برميل يوميا إلى ميناء رأس تنورة ومصاف أخرى والبحرين، ويعمل في معاملها النفطية في بقيق 3 إلى 4 آلاف موظف من قبل شركة أرامكو أو من المقاولين. ويوجد على بعد 30 كيلو مترا تقريبا من بقيق أرامكو من جهة الشرق شاطئ القرية الساحلي المطل على مياه الخليج وهو خاص بموظفي الشركة فقط.
البلد
تأسست بقيق البلد عندما اتخذ بعض المقاولين العاملين لشركة أرامكو من المساحة خارج أسوار الشركة مقرا لمكاتبهم وسكنا لموظفيهم وعامليهم، والتي هي عبارة عن مواقع مكتبية وسكنية من الصفيح والخشب، وبعض الخيم للبدو الرحل، ومع مرور الأيام والسنين أخذ الناس في الاستيطان فيها وبناء المنازل الحديثة إلى أن صارت ما عليه الآن. وقد اتسعت كثيرا ووصلت أحياؤها قرب الطريق السريع الذي يربط الدمام بالهفوف، كما توجد في بقيق حاليا دوائر لأغلب الجهات الحكومية وفيها مستشفى حكومي واحد صغير، وعدد من المدارس التعليمية للبنين والبنات لجميع المراحل، كما توجد بها محطة قطار.
تمثل بقيق مركزا مدنيا وتجاريا مهما بالنسبة للقرى والهجر التابعة لها كالدغيمية وعين دار والجوية، وأصول أهل هذه المناطق أغلبهم من قبائل معروفة تسكن في المنطقة منذ زمن طويل: هواجر وعجمان ومرة وخوالد. ويعمل فيها الآلاف من المواطنين والمقيمين في الدوائر الحكومية والقطاعات الأهلية والتجارية، وقد قامت بلدية بقيق بمساعدة من شركة أرامكو بتطوير المنطقة السكنية الحكومية عبر إنشاء عدد من المشاريع الخدماتية والجمالية، والأحياء الجديدة النموذجية، التي توزع غالبا على موظفي الشركة، ومعظم سكان المدينة حاليا من أصول تعود إلى خارج المنطقة الشرقية. تتكون بقيق من أحياء صغيرة وشوارع قليلة وقصيرة أخذت تعج بالمركبات التي هي غالبا من نوع الدفع الرباعي الجيب “لاند كروز” التي تحظى بشعبية كبيرة لدى أبناء المدينة والهجر المجاورة.
ضياع
لم تتمكن مدينة بقيق من التطور أسوة بالمدن الحديثة التي قامت بعد اكتشاف النفط خلال الخمسين عاما الأخيرة بالرغم من دورها ومكانتها في صناعة النفط، وهناك أسباب لذلك منها انها تقع في منتصف المسافة الفاصلة بين مدينة الهفوف وبقية المدن في واحة الأحساء ذات التاريخ العريق وبين مدن حاضرة الدمام الخبر والظهران الحديثة بالإضافة إلى محافظة القطيف التاريخية، فقربها من الموقعين لم يخدمها كثيرا لكي تتطور أكثر كبقية المدن في حاضرة المنطقة الشرقية الحديثة (الدمام الخبر والظهران) التي لم ترحم مدينة بقيق، إذ استطاعت هذه الحاضرة وعبر مدنها المتطورة والنموذجية من جذب كل من يعشق التمدن والحداثة وكل ما هو جديد، من قبل موظفي شركة أرامكو الذين وجدوا في مدن حاضرة الدمام الموقع المناسب للاستيطان لمن هم من خارج المنطقة الشرقية وخاصة الأحساء والقطيف.
ولعل جاذبية كل من الأحساء صاحبة التاريخ العريق ورائحة التراث المتجدد، وجاذبية حاضرة الدمام النموذجية العصرية والحداثة أصابها بالحيرة والجمود أمام قوة القطبين اللذين يتمتعان بعوامل تفتقدها المدينة الوليدة الهادئة، مما أدى إلى أن تكون تابعة وملتصقة بهما وقابلة بوضعها.
لقد كانت بقيق ـ التابعة حاليا لحاضرة الدمام مباشرة ـ منذ تأسيسها وإلى قبل سنوات قليلة تابعة إداريا لمنطقة الأحساء، وأقرب مدينة لها هي العيون، إذ تبعد عنها نحو 25 كلم، بالإضافة إلى أن أكثر الموظفين والعاملين في الدوائر الحكومية وشركات النفط والتجار والكسبة فيها من أهالي الأحساء وبالتالي فهي تعتمد بشكل كامل تموينيا وإداريا وبشريا عليها. وقرب المسافة بين بقيق ومدن الأحساء أدى إلى عدم تفكير الأحسائيين العاملين فيها في الاستقرار فيها وجلب عوائلهم، وهذا ساهم في عدم تنمية بقيق بالشكل المناسب لتصبح كالمدن الجديدة التي تأسست بعد اكتشاف النفط مثل الخبر والدمام والظهران ورأس تنورة.
مدينة الذكريات
أهالي المنطقة الشرقية لهم ذكريات كثيرة مع مدينة بقيق أرامكو التي لم تعتبر مجرد ممر لمن يتوجه إلى الدمام أو الأحساء، ولكنها كانت محل جذب للبعض لما تحتويه على مميزات، حيث كانت قبل ثلاثة عقود من الزمن شبه مفتوحة في استطاعة أي شخص وبالخصوص لمن يعرف أي موظف في الشركة الدخول والاستمتاع بمرافق الشركة الترفيهية مثل الأكل في الكانتين أو الذهاب إلى السينما وغيرها، فأهالي المنطقة الشرقية وبفضل وجود مدن أرامكو كانوا يذهبون إلى السينما منذ عقود من الزمن.
خُرَيْص هجرة فقيرة
خُرَيْص هي هجرة صغيرة تقع ضمن الحدود الإدارية لمنطقة الاحساء، تبعد عن مدينة الهفوف العاصمة الادارية للأحساء 160 كلم من ناحية الغرب في اتجاه الرياض التي تبعد عنها بنحو 150 كلم، وكانت قبل عقدين من الزمن محطة مهمة لاستراحة المسافرين من وإلى الأحساء وعموم المنطقة الشرقية ودول الخليج، يمر عبر الهجرة طريق يسمى بطريق الموت لأنه قديم وخطر، وقد فقد الطريق أهميته بعد إنشاء طريق جديد سريع يربط الرياض بالشرقية، وتأتي أهمية خريص لوجود عدد من حقول النفط فيها، وقد اهتمت شركة أرامكو السعودية بها في العقد الأخير بإقامة عدد من المشاريع العملاقة لصناعة النفط حيث يقدر إنتاجها 1.2 مليون برميل يوميا من الزيت العربي الخفيف، ويسكن هجرة خريص الصغيرة عوائل من قبيلة الدواسر وهم السكان الأصليين، وهم يعانون من افتقاد الخدمات الأساسية، ومنذ عقود من الزمن يطالبون السلطات الحاكمة بتعويضات عن أراضيهم التي سيطرت عليها أرامكو من دون دفع أي تعويض لهم والاهتمام بهجرتهم الفقيرة رغم انها تنتج أفضل أنواع من البترول الخفيف.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/09/22