هل تبدّل الأحزاب الطائفية ألوان جلودها؟
د. وفيق إبراهيم
اعتادت قوى النظام الطائفي على تعميق الصراعات بين المذاهب للإمساك بها واستخدامها للسيطرة الكاملة على النظام السياسي والاقتصادي ما أتاح لها استنزاف مقدرات الدولة والمجتمع حتى الإفلاس.
لكنها فوجئت بانتفاضة جماهيرية ضخمة عاكست السياق الطائفي المعمول به منذ 1948 عموماً و 1992 خصوصاً، ايّ مرحلة الانتقال من السيطرة الأحادية للقوى المارونية الى مستوى سيطرة قوى المذاهب الإسلامية والمسيحية معاً على الدولة في تحاصص استنزافي فريد من نوعه.
وعندما حاولت الحكومة الحالية التي تمثل القوى الطائفية المسيطرة إحداث سدّ نسبي للعجز الخطير لم تجد إلا جيوب الفقراء ملجأ تصادر قروشه القليلة للاستمرار في سطوها المتصاعد.
هذه القوى السياسية تمثل تحالف التقليد السياسي المذهبي والمصارف والدين والخارج الإقليمي والدولي.
ما باغت هذه الطبقة السياسية هو ولادة تيار جماهيري ضخم تكمن أهميته الأولى في بعده الوطني اللبناني غير المذهبي وقدرته على التغيير عن مصلحة الفقراء والطبقة الوسطى في وجه أكبر عملية سطو على المال العام.
لجهة هويته اللبنانية فإنها تمثل تحدّياً صافعاً لكلّ الأحزاب السياسية التي تعتمد على الأبعاد الدينية المقدّسة وتربطها بسلوك زعمائها شبه المقدّسين بدورهم مع عائلاتهم والمقرّبين منهم والمتولّين أمور الفساد والصفقات.
الأمر الذي يجعل هذا التيار الجماهيري الضخم ممتشقاً صفتَيْ اللبنانية والطبقية معاً، في إطار الحرص على الأمان العام لكلّ اللبنانيين، فهؤلاء ليسوا معادين للأغنياء بل لتكوين الثروات من الفساد السياسي والدفع باتجاه الإفلاس، والاستسلام لسياسات الخارج الإقليمي حتى ولو كانت على حساب مصالح اللبنانيين.
لذلك وجد هذا النظام نفسه في وضع معقّد وصعب، لأنّ مقاومته لهذا التيار الجماهيري من الموقع الطائفي لن تؤدّي الى ما يريده بل قد تزيد من اتساع هذا التيار وتشكله على أسس حديثة، ايّ انفكاكه من سجون الطوائف، بأبعاد لبنانية متطوّرة.
هذا ما دفع برئيس الحكومة سعد الحريري الذي يقدّم نفسه من دون مواربة على انه «بَيْ السنة» الى الانتقال للدفاع عن كلّ اللبنانيين، معتبراً انه ينتمي الى هذا التيار الجماهيري ويحرص على مصالحه معلناً انه بصدد إعداد إصلاحات لا تمس جيوب الفقراء.
للعلم فقط، فإنّ الحريري يمثل تياراً صلباً لا يقبل أبداً بفرض ضرائب على المصارف وريوع الأغنياء واستعادة الأملاك البحرية والإمساك بعائدات الجمارك وتعاونه أحزاب زعماء من الطوائف الأخرى.
للتذكير فقط، فإنّ المصارف كانت تعطي فوائد بمعدل 7 في المئة للمودعين، وتعيد إقراضها للدولة منذ 1992 وحتى تاريخه بمعدل بدأ بخمسين في المئة وبدأ بالتراجع الى حدود العشرين في المئة حالياً.
الحريري اذاً يبذل جهوداً للانتقال من مستوى «بَيْ السنة» الى زعيم الانتفاضة الجماهيرية وفعل مثل الوزير السابق وليد جنبلاط الذي لا يزال يعتبر منطقة الشوف وعاليه التي يسكنها «الموحدون الدروز» الى جانب طوائف أخرى إقطاعاً صرفاً له، لا يمكن الدخول اليه إلا من باب قصر الجنبلاطيين في المختارة.
إلا أنّ أبا تيمور يدعم في هذه المرحلة تظاهرات تطالب بالتغيير على مستوى وطني محمّلاً مسؤولية الانهيار للرئيس ميشال عون وتياره الموجود في السلطة منذ ثلاث سنوات فقط، فيما يتقاسم الوزير جنبلاط منافع السلطة مع الحريريين ورؤساء الجمهوريات السابقين ومجالس النواب.
بدوره لم يتلكّأ قائد القوات سمير جعجع بطرح مشاريع إصلاحية وطنية، إنما انطلاقاً من إدانة منافسيه المسيحيين في التيار الوطني الحر ورئيسه الوزير جبران باسيل وعمه رئيس الجمهورية.
بدوره حزب الله أيّد الانتفاضة الجماهيرية واعتبرها صادقة، كما وصفها أمينه العام السيد حسن نصرالله، بشكل بدا فيه الحزب متنبّهاً لضرورة إيلاء الداخل اللبناني اهتماماً خاصاً على المستوى الاقتصادي وساحباً بشكل قوي تغطيته لمنظومة الفساد في الدولة.
وكان الحزب يحاول ضرب الفساد، لكنه هوجم من قبل قيادات دينية من مذاهب وطوائف أخرى وصلت الى حدود التهديد بحرب في الشارع. ما يبدو الآن أنّ حزب الله الفخور بشارعه الوطني الكبير بات أكثر إصراراً على الدفاع عن مصالحه الاقتصادية ضمن شبكة تحالفاته الداخلية وبما يؤدي الى المحافظة على استمرار الدولة في هذه المرحلة الإقليمية العصيبة.
وحركة امل بدورها أيدت الانتفاضة الجماهيرية الى جانب التيار الوطني الحر الذي اعتبرها صادقة مع اندساس عناصر فيها تحاول تشويهها لصالح جهات حزبية معادية للتيار السياسي المؤيد لعون.
انّ ما أجبر أحزاب السلطة على تأييد الحراك الشعبي هو قوّته وتناميه في اتجاهات معادية للطائفية التي تعتمد عليها قوى السلطة لتحقيق سيطرتها على الدولة.
لذلك تقوم بهذه المحاولات لاستيعاب غضب الشارع عبر تقديم نفسها كنظام وطني يهتمّ بشؤون الناس من مختلف الطبقات.
هذا هو السبب الأساسي الذي يرغم قوى السلطة على التراجع عن فرض ضرائب على الطبقات الفقيرة والوسطى، وهي مرحلة مؤقتة حتى يتمكّن النظام الطائفي من إعادة الإمساك بالشارع لسجنه في دهاليز الطائفية.
إنها عملية تغيير ولو لجلد نظام مركب على الفساد بما يتطلب استمرارية نمو التيار الشعبي وتشكله على قاعدة أنه الوريث الفعلي لجمهورية الموز والفساد ولو بعد حين.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/10/21