قلّة تعرف عنه رغم خطورته.. مؤتمر "بنرمان" وبداية التآمر
نقولا طعمة
هو المؤتمر الذي جرى طَمْسه وتغييبه من كُتُب التاريخ، لكي تظلّ أهدافه وما خُطِّط فيه من مؤامراتٍ على مختلف الصُعُد مخفياً، لأن المؤامرة تستدعي سريّتها وتلبسها وجوهاً مُستعارة تخفي حقيقتها.
آخر بدائِع العالم الغربي لتمزيق منطقتنا العربية وقَهْر شعوبها هو "صفقة القرن"، بما تحمله من نيَّات باتت معروفة، رغم اليقين هذه المرة بأنَّ الصفقة ليست إلا حبراً على ورق، ويأتي الإعلان عنها بعد مرور 113 عاماً على مؤتمر "بنرمان" الذي عُقِد بين العامين 1905-1907. وأغرب الأمور أنه جرى فيه تحديد مصير منطقتنا منذ ذلك الحين، إلا أنَّ قلّةً من المتابعين تعرف به وبخفاياه وما بيَّته لعالمنا، بما يُشبه تحديد مصيره في أكثر من قرن.
اليوم، وفي ظلِّ الضجيج حول ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ومعه رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تحلّ مناسبةٌ للإضاءة على طرفيّ الخط البياني ذي الـ113 ربيعاً، أوله مؤتمر "بنرمان"، وآخره "صفقة القرن".
مؤتمر "بنرمان"
هو المؤتمر الذي جرى طَمْسه وتغييبه من كُتُب التاريخ، لكي تظلّ أهدافه وما خُطِّط فيه من مؤامراتٍ على مختلف الصُعُد مخفياً، لأن المؤامرة تستدعي سريّتها وتلبسها وجوهاً مُستعارة تخفي حقيقتها، فالمؤتمر الذي تناوله كثيرون من البحّاثة والكُتّاب والمراجِع، جرى فيه تحديد مصير المنطقة العربية بالتفصيل المُملّ، ويكاد العقل لا يُصدِّق أنَّ كلّ مُجريات الأحداث والتطوّرات التي عاشها عالمنا طوال هذه المدة، تكاد تكون مُخطّطة ومُنظّمة نقطة بنقطة وحرفاً بحرف في ذلك المؤتمر.
بحسب مراجِع عديدة، دعا حزب المُحافظين البريطاني إلى انعقاد هذا المؤتمر بشكلٍ سرّي في العام 1905، ووجَّه المُحافظون الدعوة إلى رئيس حزب الأحرار - رئيس الوزراء البريطاني آنذاك - هنري كامبل بنرمان. والهدف من المؤتمر إعداد استراتيجية أوروبية تضمن سيادة الحضارة الغربية على العالم، وتضع آلية تحافظ على تفوّق الغرب الاستعماري.
دُعيَت إلى المؤتمر الدول الاستعمارية: فرنسا، وهولندا، وبلجيكا، وإيطاليا، وإسبانيا. وشارك فيه كِبار خُبراء الدول الغربية على الصُعُد الاجتماعية والجغرافية والتاريخية، وفي مجالات الاقتصاد والنفط والزراعة وسواها، واستمرَّ العمل عليه لمدَّة سنتين انتهتا في العام 1907 بإصدار نتائج البحوث التي عُقِدت خلاله، وخلصت إلى مُقرَّرات ركَّزت على كَبْحِ النزوع الوحدوي في المنطقة، وذلك بتقسيمها وفصل الجانب الآسيوي فيها عن الجانب الأفريقي، بزرع جسمٍ جديدٍ بين الجزءين.
وكانت خُلاصة المؤتمر ما توصَّلوا إليه على شكل تقريرٍ "سرّي خاص" رُفِع إلى وزارة الخارجية البريطانية. ولما شعرت الخارجية بخطورته، أحالته إلى وزارة المُستعمرات البريطانية، ثم اختفى من دون أن يعرف به أحد، وبقي منسياً إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، عندما نشره صحافي بريطاني صهيوني في معرض الدفاع عن فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، مُستشهِداً بآراء الحكومة البريطانية وقراراتها وموافقة قادة الاستعمار العالمي على ذلك لتبرير قيام دولة يهودية كضرورةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ للحفاظ على مصالح الدول الغربية في الشرق العربي.
من مُقرَّرات مؤتمر لندن السرّي، السيطرة على البحر المتوسّط وشواطئه الشرقية والجنوبية، ذلك أنَّ حماية المصالح الأوروبية والأميركية المُشترَكة، تتطلّب السيطرة على البحر المتوسّط وعلى شواطئه الجنوبية والشرقية.
وما ترامى عن الوثيقة أنَّ الخطر يكمُن في البحر المتوسّط، وفي شواطئه الجنوبية والشرقية بوجهٍ خاصّ، ففي هذه البُقعة الجغرافية الاستراتيجية الشاسِعة الحسَّاسة، يعيش شعب واحد تتوافر له مقوّمات لمجتمعٍ موحَّد ووحدة تاريخية ودينية ولغوية وثقافية، مع احتمال تزايُد عدد السكان العرب، إذ بلغوا 35 مليون نسمة في العام 1907، ويمكن أن يرتفع العدد على امتداد قرن واحد إلى مائة مليون نسمة.
يُضاف إلى ذلك إمكانية التقدّم العِلميّ والتقنيّ والثقافيّ، ما يُشكِّل مخاطر على مصالح الإمبراطوريات الاستعمارية، وخصوصاً الإمبراطورية البريطانية.
في ضوء ذلك، اتّخذت مُقرّرات لتقسيم المنطقة العربية وإيجاد صِراعات في ما بينها وإبقائها في حال توتّر واضطراب. والأهم من كلّ ذلك، فصل الجزء الآسيوي من العالم العربي عن جزئه الأفريقي، عبر زرع جسمٍ غريب يفصل بين الجزءين، وهذا ما تمَّ بزرع الكيان الإسرائيلي الذي جرى التخطيط له والحديث عنه في المؤتمر وما قبله بعقودٍ أيضاً، إلى أن نضجت ظروفه، وتم تنفيذه في نكبة العام 1948.
أثار اختفاء وثيقة مُقرَّرات مؤتمر "بنرمان" الكثير من الجَدَل حول صحَّتها، لكنَّ المُدافعين عن حقيقتها يستندون إلى أن ليس في مضامينها أية غرابة، فما ورد فيها لا يتعدَّى الكثير من الحقائق والوقائع التي حدثت أو وردت في العديد من الأدبيات السياسية للعالم الغربي، وخصوصاً بريطانيا.
"صفقة القرن"
أما وقد اجتزنا كلّ عقود ما بعد مؤتمر "بنرمان" وصولاً إلى "صفقة القرن"، فإنَّ ما نشهده اليوم من إعلان ترامب - نتنياهو لا يُعتَبر إلا نقطة عابِرة في التاريخ، جاءت عند طرفه الأخير في ظلِّ تحوّلات عالمية يُؤمَل معها أن تنتهي مرحلة مؤتمر "بنرمان" بـ"صفقة القرن".
أُعلِن عن "صفقة القرن" في حزيران/ يونيو 2019. ورغم تسرّب غالبيّة مضامينها، لم يُعمَل بها، وكأنها تُرِكت لتُطرَح في ظروفٍ تناسب القائمين بها، إلى أن حلَّت هذه الظروف، فعرضت الصفقة في المسرحية التي جرت في واشنطن منذ أيام.
وقف مسؤولان كبيران، يفترض بالأوّل أن يكون زعيم العالم، لأنَّه رئيس أقوى دولة في العالم افتراضاً، أي الولايات المتحدة الأميركية، والآخر رئيس حكومة الكيان الصهيوني؛ التوأم الامتداد للولايات المتحدة الأميركية، والذي يستمدّ الكثير من قوَّته من قوَّتها.
المُفارَقة أنَّ الرجلين مطلوبان للعدالة، إذا جاز التعبير، فعلى كلٍّ منهما الخضوع للقضاء بِتِهَمٍ مختلفة جاءت من بلده، وهما في حال قريبة من الاتهام، أي في موقف الضعف، بينما يسعى كلّ منهما إلى النجاح في انتخاباتٍ في بلده تُعيده إلى السلطة بقوَّة.
وفي ظلّ المعركتين الانتخابيتين الوافدتين، يغتال الأميركي قائدين كبيرين هما الفريق قاسم سليماني وأبو المهدي المهندس وصحبهما. اعتقد الحاكِمان المُرشَّحان للعودة إلى منصبيهما عبر الانتخابات أنهما حقَّقا ضربة ترفدهما بالقوَّة الشعبية في بلديهما، لكن الردّ لم يأتِ مُتأخّراً، ولم يكن عادياً، فللمرة الأولى تسقط على رأس الأميركي صواريخ إيران التي أصابت رأسه في الصميم، وأسقطت أوهامه الانتخابية، فلم يسبق لأيِّة دولة في العالم أن بادرت من تلقاء نفسها إلى ضربه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في العام 1945، إثر قنبلتيّ هيروشيما وناغازاكي اللتين أرعب الأميركي بهما العالم، فظلّ العالم مُتردِّداً في مُجابهته المباشرة، إلى أن وجَّهت إيران له الضربة، لاغيةً مفاعيل اغتيال القائدين.
ولكنَّ ترامب أصرَّ على اللجوء إلى النزعة "الدونكيشوتية" الأميركية، فخاطب الجمهور الأميركيّ بلغةٍ تظهره وكأنه أسقط القوَّة الإيرانية.
جزء من الرأي العام الأميركي صدَّقه خصوصاً أنصاره، لكنَّ كثيرين آخرين فهموا مسرحيَّته، وعرفوا ما يمكن أن تلحقه به المُجابهة مع إيران، في ضوء إعلان البنتاغون عن تصاعُد أعداد الجنود المُصابين بالضربة، والسُخرية من أنها كلَّها ارتجاجات دماغية. أدرك الأميركيون أنَّ "هوليوود" في سلطة بلادهم، فاندفعوا في ثمانين مدينة ضمن مسيرات مُناهِضة للحرب مع إيران، قبل أن يعود أبناؤهم نعوشاً إليهم.
كان إعلان "صفقة القرن" خطَّة لرَفْعِ معنويات الرجلين، لعلَّهما يعودان إلى السلطة بقوَّة. لم تكن الخطة صفقةً يمكن فرضها بالقوَّة المفقودة لدى الطرفين بعد تصاعُد محور المقاومة وانتصاراته في سوريا والعراق وتصاعُد قوَّته في لبنان.
"صفقة القرن" آخر مسرحيات الغرب الاستعماري الإمبريالي، وربما تكون آخر حلقةٍ من خطط مؤتمر "بنرمان" الذي طال عُمره أكثر من المُعتاد، وفاق قرناً من الزمن، فكفى!
لصالح موقع الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/02/01