«الحرب المنسية» وصدمة اللاوعي الصهيوني: الفشل يتيماً
جلال شريم
في أجواء الذكرى العشرين لهزيمة الاحتلال الصهيوني، واندحاره عن جنوبي لبنان، وتحقق حلم الانتصار والتحرير في لبنان، يزخر إعلام العدو بكثافة لافتة بالمواد المنشورة عن تلك الذكرى، سواء من خلال توثيق المعلومات عن فترة الاحتلال، كنشر مقالات لأبرز محطات الاحتلال، والعمليات التي واجهها، وتكريم جنود العدو القتلى، ونشر مقالات تتعلّق بمواقع العدو خلال فترة الاحتلال (سجُد، الريحان، العباد، العيشية، الدبشة، الشقيف، العويضة، بلاط، راس البياضة... إلخ)، لتبيان تاريخها وأهميتها العسكرية، وما واجهته من هجمات، وأسماء من سقط فيها من قتلى للعدو، وأيضاً نشر لقاءات مع قادة تلك المواقع، أو جنود خدموا فيها، أو عناصر من العملاء الفارّين إلى فلسطين المحتلّة.
أما الجزء الثاني من المواد المنشورة، فيركّز على قرار الانسحاب وتحليله، وتحليل تداعياته وأنه حوّل حزب الله إلى قوة وقدوة تهدّد الكيان بشكل دائم. وهذا الفشل هو بمثابة «ضرر استراتيجي للدولة سيكون من الصعب إصلاحه على مدى جيل كامل... لقد قدّمنا نموذجاً سيئاً في التعامل مع حلفائنا وتخلّينا عنهم، وهذا ضرر مستقبليّ كبير، ويقدم قدوة مشينة لمن يفكر بالتعامل معنا»، بحسب تعبير اللواء الاحتياط غيرشون هاكوهين.
هذه المنشورات تكاد تُجمع على وصف الانسحاب بأنه «هروب»، وتم «بتخطيط سيئ»، لكنّه أنقذ الجيش الصهيوني من معادلة «لبنان= الطين، لبنان= الكارثة»، بحسب تعبير البروفيسور الصهيوني، أودي ليبل (1). وهذا الانسحاب، بحسب تلك المنشورات، ترك تداعيات عميقة على هيبة الكيان، وشجّع في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، وقدّم لها القدوة والنموذج، وأفهمها أنّ هذا العدو «لا يفهم إلا لغة القوة»، كما ينقل عن مروان البرغوثي، وأغرى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بمحاولة نقل التجربة المسلّحة إلى مناطق سيطرته، في إشارة إلى قضية السفينة Karine A في عام 2002 والتي كانت تنقل الأسلحة من إيران إلى مناطق السلطة، بتخطيط وإشراف حزب الله اللبناني، وهي السفينة التي أقنعت الكيان المحتل بأنّ عرفات لا يريد «السلام الفعلي»، فكان لا بدّ من اغتياله، بحسب كثيرين.
وبين ثنايا هذه «الفورة»، في المنشورات، نستطيع الإمساك بخيوط المحتوى الباطني (الرسمي) التي تخالف ظاهر هذه الفورة (الشعبي)، وعبر رصد السجال الذي يؤرق الصهاينة، ويكشف عمق الصدمة التي تركتها هذه الهزيمة في وجدانهم، والضرر الذي ألحقته بعقيدتهم القتالية، وهو السجال الحامي حول ضرورة الاعتراف بفترة احتلال الشريط الحدودي بأنها «حرب مستقلّة بشكل رسمي»، بدل تقديمها على أنها قتال (شجار)، أو مجموعة حوادث عسكرية «ضائعة بين حربي لبنان الأولى والثانية»، بحسب التعبير الصهيوني. وهذا الأمر تتجنّبه سلطات العدو، لأنّ دونه محاذير كثيرة: رسمية وقانونية ونفسية، وسينتج عنها تداعيات محلية ودولية، وإقرار رسمي بعدد القتلى خلال تلك الفترة، ووجوب الالتزام بالمعاهدات الدولية التي تقونن الحروب وتُلزم المتحاربين باتّباع قوانين تجاه الخصم، واحتمالية دفع تعويضات، وغيرها. وهذا السجال يدور على صُعُد عدة، وبوسائل متعدّدة، ولا يوفّر منصّة إعلامية إلّا ويستغل فضاءها لإبراز نفسه.
ففي مجال النشر صدرت كتب عدّة، آخرها كتاب «لبنان: الحرب المنسية» للصحافي الصهيوني «حاييم هار ــــ زهاف»، والذي خدم جندياً في لواء ناحال المحتلّ في الجنوب، بين عامي 1996 و2000، ويرى أنّها سنوات أربع زادت طين الاحتلال بلّة، بدل استغلال تفاهم نيسان 1996 للانسحاب، وحفظ ماء الوجه. وفي الصحف، تمّ نشر عدد كبير من المقالات السجالية، في هذا الإطار.
يرى التحليل النفسي أنّ النسيان هو «وسيلة للتغلّب على الذكريات الأليمة» وهذا ينطبق هنا على العقيدة الصهيونية القتالية التي أسطرت جيشها وقدّمته على أنه لا يُهزم
وعلى «يوتيوب»، رصدنا سلسلة من ثلاث حلقات تحت عنوان «حرب بلا اسم» تتناول القضية بشكل مُسهب، عبر لقاءات مع قادة جيش العدو وضباطه وجنوده، مستعرضة أسباب الاحتلال، وسير الأحداث حتى الانسحاب وتداعياته. وهي السلسلة التي بثّتها محطات تلفزة عبرية، مضافاً إليها حلقات وبرامج عدة. أمّا على «فايسبوك»، فهناك مجموعة تحت اسم «قصص من لبنان ــــــ ماذا حدث في المواقع»، وهي مخصّصة لجنود العدو ليرووا ذكرياتهم وتجاربهم ومشاهداتهم، أثناء خدمتهم في لبنان. هذه المجموعة مثّلت ظاهرة لافتة في هذا الإطار، واستقطبت حوالى 35 ألف عضو، غالبيتهم من الجنود، واحتوت آلاف المنشورات والصور التي تُنشر للمرة الأولى في فترة قياسية.
وتُشكّل هذه المجموعة واحدة من أهم أدوات الضغط، وباتت منشوراتها مادة مرجعية في إعلام العدو في هذا الإطار، لنزع الاعتراف الرسمي بأنّ فترة الاحتلال كانت حرباً ويلزمها اسم، وبالتالي يجب أن «يُبنى على الشيء مقتضاه»! واللافت أنه عبر هذه الصفحة، تمّ إطلاق إحصاء «غير رسمي» لعدد الجنود الصهاينة القتلى في لبنان، من خلال أصدقائهم وأقاربهم، وهو الأمر الذي تأنف المؤسسة العسكرية للعدو من الإعلان عنه رسمياً. وقد تبيّن، حتى الآن، أنّ عدد جنود العدو الذين سقطوا في لبنان، منذ الإعلان رسمياً عن «انتهاء حرب لبنان الأولى»، بتاريخ 29-9-1982، حتى لحظة الانسحاب بتاريخ 24-5-2000، قد بلغ 675 جندياً، سقط منهم 414 في الشريط المحتل، بعد عام 1985. وما زال هذا الإحصاء ساري المفعول حتى لحظة كتابة هذه السطور، فالرقم «ليس نهائياً وليس محدداً»، بحسب بعض المشرفين على الصفحة، وبينهم «هار ـــــ زهاف» نفسه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي خلفيات عدم الاعتراف هذا؟
طبعاً، تتعدد التحليلات وتتنوّع وتتشعّب، لكنّها تعود وتلتقي، آخر المطاف، عند مفاهيم «الهزيمة والفشل والهروب» التي آل إليها المخطط الصهيوني في لبنان. يرى أوري ميلشتاين (2)، في مقاله المنشور بتاريخ 12-5-2020، أنّ الغزو الصهيوني للبنان كان ذا شقّين: عسكري واستراتيجي. كان الشق العسكري يهدف إلى تدمير القوى الفلسطينية، في جنوبي لبنان، وإبعادها عن الحدود مع فلسطين المحتلّة، ليحقّق الكيان شعار الاجتياح الذي أسماه «سلامة الجليل»، أي ضمان أمن مستوطناته الشمالية. أمّا الجانب الاستراتيجي، فهو حلم الطبقة السياسية الصهيونية آنذاك، بـ«إيجاد نظام سياسي جديد في الشرق الأوسط»، عبر إبعاد الفلسطينيين إلى الأردن، ليتخذوه وطناً بديلاً لهم. وبالتالي «تصفية القضية الفلسطينية»، وهذا ما أدلى به باراك مؤخراً، وألقى اللائمة بهذا التفكير على «أحلام أرييل شارون».
طبعاً، لم يتحقّق أي شيء من ذلك، بل كانت النتيجة عكسية، إذ غرق «الجيش الذي لا يُقهر» في وحول لبنان واستبدل الفلسطيني «بعدو جديد قوي ورثه»، وواجه حرب عصابات عجز عن إيجاد حلّ لها فدخل في دوامة استنزاف، مثل «الاستنزاف الذي واجهه بعد حرب الأيام الستة»، بحسب تعبير ميلشتاين. تحوّل حلم تأمين مستوطنات الشمال إلى وهم أنتج كابوساً لمئات الجنود الصهاينة المحتلين في لبنان مع أهاليهم وقيادتهم، وصار همّهم أن يحموا أنفسهم، وبات هدفهم أن ينجوا بها من الموت، فحسب. في مقابلة مع المقدم الصهيوني المخضرم، يفتاح غاي (3)، يروي كيف أنّ مقاومين نجوا من كمين، فأعطى الأوامر لقوة صهيونية بأن تلاحقهم، فجاءه الأمر من قائد المظليين، يسرائيل زيف، بعدم فعل ذلك. يعقّب غاي الذي خدم ثلاث مرات في لبنان: «تبيّنت لي الفكرة: ليس المهم عدد الإرهابيين الذين سنقتلهم، ولكن الأهم كم من جنودنا سيبقون على قيد الحياة». أمّا أفيتال غونين، مشغّل نظام الرادار في موقع قلعة الشقيف، فيقول: «أول الأمر شعرت بفخر وفرحة أنني سأخدم في الموقع... ولكن لاحقاً لم تعد الحياة تطاق، رغم وجود ألوية النخبة والمظليين والسيطرة الجوية ونظام Kesht الراداري للمراقبة الذي كنت أشغله... فبات مجرّد الصعود إلى أعلى الحصن نوعاً من اختبار الشجاعة». يقول جندي آخر: «خوفاً من الاختطاف كان الجندي يحتاج إلى جندي يرافقه عند خروجه كي يتبول! ولحسن الحظ أنني خرجت قطعة واحدة في أواخر عام 1999». ويعقّب ميلشتاين: «... وكيف تحمي الجنود؟ ليس باتخاذ المبادرة والهجوم، كما أراد ليفين، ولكن بالدفاع، وبناء التحصينات، ورفع الجدران... وكلّما ارتفعت الجدران الخرسانية، ارتفعت جدران الخوف بين الجنود، وفي قلوب القيادة».
نعم، مرحلة «الشريط المحتل/ المنطقة الأمنية» صدمة أصابت صميم العقيدة العسكرية للكيان التي تمثل علّة وجوده، وجعلته يتجرّع كأس الهزيمة، والغرق الطويل من دون أن يحقّق أي هدف من أهدافه المعلنة، وأجبرته في آخر المطاف على الفرار من دون أي معاهدة أو مقابل، ولو رمزي، لحفظ ماء وجهه. يحلّل دورون خياط، الذي خدم لسنوات في موقع بلاط هذه المسألة في لقاء في ذكرى الاندحار: «لقد نُسيت تلك الفترة تماماً. هناك أمران يتم الحديث عنهما فقط: كارثة المروحيات والانسحاب... المشكلة أنّ فترة القتال كانت طويلة ولم نفز فيها، وهذا أمر يصعب على الجيش أن يتعامل معه أو يتقبّله... على الحكومة أن تعترف بأنها حرب لتكريم الذين سقطوا، والذين خدموا هناك. وبمجرّد إعلان وجودنا في المنطقة الأمنية بأنه حرب، فسيكون له يوم ذكرى وطني، كما الحروب الأخرى».
وفي مقال آخر، ترد صورة أخرى للفشل: «الاعتراف بأن بقاء الجيش في قطاع الأمن كان حرباً، سيكون اعترافاً أيضاً بأنها كانت حرباً من دون خطة، ولا استراتيجيا، ومن دون شفافية تجاه الجمهور وتجاه المقاتلين... هي بالمختصر: حرب الغباء».
يرى التحليل النفسي، أنّ النسيان هو «وسيلة للتغلّب على الذكريات الأليمة»، وهذا ينطبق هنا على العقيدة الصهيونية القتالية التي أسطرت جيشها، وقدمته على أنه لا يُهزم، ولن يخسر أي حرب مع أعدائه، بغية «الحفاظ على شعب الله المختار، في أرض الميعاد». ولكن مع هزيمته في لبنان، بدأ الصهيوني يكتشف ما لديه من أوليات نفسية تساعده على نسيان هذه الذكرى الأليمة، فبدأ بإخراجها من خانة الحروب، ويحاول نسيانها أو طمس جزء من ذاكرته باستئصالها Lobotomie mémorielle والتعالي على الواقع للهروب منه، والحفاظ على صورة جيشه في وجدان مستوطنيه.
لعلّ مقولة فرويد تكفينا في هذا الإطار: «من الواجب أن نهتم بالنسيان أكثر من التذكر، فلكي نتعرف إلى مجتمع ما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ما لا يُخلّد». هي مقولة تذكّرنا بمقولة العميد الصهيوني موشيه تامير (4) عندما سأله المحاور في نهاية الحلقة الأخيرة، من سلسلة «حرب بلا اسم» عن سبب أنّ «عصر لبنان هو حرب غير مسماة»، فردّ باقتضاب معبّر: «انظر، الفشل يتيم دائماً»!(1) أودي ليبل: محاضر وباحث في كلية الاتصال في جامعة «بار إيلان».
(2) أوري ميلشتاين: من أكبر المؤرخين العسكريين الصهاينة، وهو الذي أجرى اللقاء مع باراك مؤخراً.
(3) خدم يفتاح غاي مرات ثلاث في لبنان. المرة الأولى (1984-1989)، الثانية (1993-1995)، ثم تم استدعاؤه، لخبرته بالملف اللبناني، بعد حادثة تحطم المروحيات في عام 1997 حين تم القضاء خلالها على عدد كبير من جنود محور الشقيف الدبشة علي الطاهر، وبينهم قائد المحور موشيه المعلم، فاستنجدت القيادة به لإعادة بناء هذا المحور الحساس والمهم.
(4) موشيه تامير: عميد صهيوني متقاعد، كان قائداً للولاء غولاني، ثم قائداً لفرقة غزة في جيش العدو، وخدم في لبنان سنوات عدة، وقاد وحدة «ايجوز» الصهيونية الخاصة. أصدر كتاباً عن حرب لبنان «حرب بلا شارة» (2005). أُجبر على الاستقالة من منصبه في سنة 2010 بعد فضيحة سماحه لابنه الصغير بقيادة مركبة ATV عسكرية، من دون ترخيص، قرب حدود غزة، واصطدامه بمركبة مدنية، ومحاولته لفلفة القضية.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/05/30