سالفة أوباما في الخليج
طراد بن سعيد العمري ..
يزور الرئيس الأمريكي باراك أوباما الخليج مع اقتراب نهاية ولايته السياسية، كزيارة مجاملة لدول أصابها الكثير من الإرتباك والذعر مؤخراً لخمسة أسباب: حديثه لمجلة “إتلانتك”؛ وتدني سعر وقيمة النفط؛ والتقارب الأمريكي مع إيران؛ وتزايد الاضطرابات في المنطقة؛ وتغيٌر اتجاهات السياسة العالمية. تأمل دول الخليج في تصريح أو كلام من الرئيس الأمريكي، يطمئنها على مستقبلها مع الولايات المتحدة وحلفاءها في أوروبا، من ناحية، ويعزز بقاءها ووجودها ويعيد إليها الثقة، من ناحية أخرى. فبعد (٦) عقود من العلاقة الحميمة بين دول الخليج والولايات المتحدة تشعر دول الخليج بأن مكانتها اهتزت مما يفسر شيء من نَـزق السياسة الخارجية الخليجية مؤخراً. سيأتي باراك أوباما إلى الخليج وسيُظهر ابتسامته المعهودة، وسيقول تصريحات تُـرضي غرور وكبرياء دول الخليج، وسينتقد إيران بأسلوب وصياغة مُحكمة، كما فعل وزير خارجيته، وسيُطالب برحيل الرئيس بشار الأسد، وسيمتدح دول الخليج في قضايا عالمية، وسيُشدد على أهمية محاربة الإرهاب، وسيُعرّج على أهمية حل الصراع العربي الإسرائيلي، وسيُطمئن دول الخليج على تواجد أمريكا بينهم، وسيبيعهم سلاحاً كثيراً كثيراً كثيرا.
لن يقول الرئيس الأمريكي لدول الخليج أنهم لازالوا لم يرتقوا إلى مستوى الدول بعد، لا لن يقول هذا. ولن يذكّرهم بأن الخطر القادم على كياناتهم السياسية ومجتمعاتهم منهم وفيهم، ولن يحاول في زيارة المجاملة هذه، أن يُحرجهم أو يجرحهم بالقول أن إدارتهم لدولهم ومجتمعاتهم لازالت في نظر الغرب بدائية وبدوية، لا لن يفعل ذلك. ولن يقول لهم بأنهم يدعمون الإرهاب ويمولونه وأن معاناة العالم أجمع من الأحداث الإرهابية هي بسبب الخليج بشكل مباشر وغير مباشر. ولن يأتي على ذِكر المرأة، أو الانتخابات، أو حقوق الإنسان، أو حرية التعبير، أو الديموقراطية. سيلتزم الرئيس الأمريكي بتوصيات ونصائح مستشاري العلاقات العامة في البيت الأبيض، التي تؤكد أن قادة الخليج لديهم حساسية مُفرطة ويجب عليه تجنب كل تلك المواضيع المحرجة.
أما بشأن إيران فلن يسمع قادة الخليج من الرئيس الأمريكي أنها – أي إيران – هي الحليف القادم بحسب متطلبات الإستراتيجية الأمريكية العظمى، لكنه سيلمّح إلى أن العلاقة الأمريكية الإيرانية هي للتأكد فقط من التزام إيران بمقررات الاتفاق النووي خلال العشر سنوات القادمة بحسب ما نص عليه الاتفاق. ولن يُسمع أوباما قادة دول الخليج أن الاتفاق النووي مع إيران جاء نتيجة تعاون إيران مع أمريكا في قضايا إستراتيجية كبيرة وكثيرة منها على سبيل المثال: أفغانستان والعراق قبل وخلال وبعد الاحتلال الأمريكي للدولتين. ولن يفضح الرئيس أوباما بشكل مباشر بأن إيران تملُك موقعاً إستراتيجيا وسياسياً وإقتصاديا في العقود القادمة للتوازن الأمريكي والغربي مع روسيا والصين. وسيقول كلاماً متضارباً عن سوريا ورئيسها ونظامها، لكنه سيشيد بجيشها وتحقيقه تقدم في دحر داعش. ولن تسمع دول الخليج من الرئيس الأمريكي خلال الزيارة أن الحقبة الخليجية هي مرحلة “سادت ثم بادت” في الإستراتيجية الأمريكية.
سيستمع الرئيس الأمريكي بكل أدب وتواضع إلى إيجاز عن تدخلات إيران في دول الجوار، وسيلاحظ باراك أوباما الهلع والقلق في ثنايا الإيجاز، ولكنه وبكل تهذيب ممزوج بابتسامة أيضاً، سيقول “ولكن” BUT، هذه هي المفردة أو اللازمة، التي ستتكرر كثيراً من أوباما خلال الطروحات الخليجية. سيُنبه باراك أوباما مضيفيه إلى أن العلاقات الدولية لا تقوم على الطائفية، أو العنصرية، أو العرقية. فلا يوجد عرب أو عجم، أو سني وشيعي في العلاقات الدولية، ولا طوائف أو مذاهب أو ملل، ففضاء العلاقات مفتوح ومتساوٍ للجميع. سيُقدم الرئيس الأمريكي وثيقة لقادة الخليج تبيّن أن المسلمين السنة في العالم هم الغالبية العظمى بواقع (٩٣٪)، والشيعة أقلية حيث لا يتجاوزون (٧٪) فقط، مما يفرض التزام أخلاقي على أمريكا لدعم الأقليات، والأمر معكوس تماماً في منطقة الخليج والجزيرة العربية، فالشيعة هم الأغلبية ويشكلون ما نسبته (٥٤٪) من تعداد سكان دول سنية تُتهم بالتمييز ضد الشيعة، وهذا يفرض بدوره التزام أخلاقي على إيران. وفي كلتا الحالتين الأمر له إشكالياته السياسية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار.
بهذه العبارة الأخيرة سيحاول الرئيس الأمريكي أن يتجنب النظر مباشرة إلى أي من قادة دول الخليج لكي لا يُفهم من ذلك بأن الحديث موجه لأي منهم. سيأخذ الرئيس الأمريكي زمام الحديث لكي يطرح حججه بشكل قانوني ومنطقي، فهو رجل القانون قبل أن يصبح رئيس للولايات المتحدة، كما أنه المؤتمن على الدستور الأمريكي. ذلك “الدستور” وأهميته وحاكميته الذي لازال قضية مختلطة في دول الخليج، فهو من المحرمات في بعضها ويساء فهمه في بعضها الآخر. سيأخذ باراك أوباما من تجربة العراق مدخلاً ومثالاً يرمي إلى أنه مالم يتم التطوير المتسارع في المجتمع الداخلي، وصياغة دساتير، وفصل السلطات، واحترام الأقليات، وتمكين المرأة، واحترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير، ونبذ العنف والإقصاء والتمييز، وتفعيل المشاركة، وتعميق المواطنة، وزيادة ودعم مؤسسات المجتمع المدني، وخفض الصوت الديني المتطرف، وتقوية مفهوم الدولة، فلن تستطيع الولايات المتحدة مساعدة دول الخليج في التخلص من هشاشتها، أو منع تقسيمها، وتشطيرها في المستقبل.
سيلتفت الرئيس الأمريكي في هذه اللحظة إلى مذكرة أعدها أشتون كارتر وزير دفاعه، بعد اجتماع سابق مع وزراء دفاع الخليج قبيل وصول الرئيس، وسينظر إليها بشكل مفصّل، حيث تم إعدادها بطريقة معيّنة ووضع رموز خاصة على بعض بنودها، إذ تتضمن طلب أسلحة تتعارض مع مبدأ تفوق إسرائيل الذي تعتمده الإدارات الأمريكية المتعاقبة. لكن الرئيس أوباما سيكتفي بتحريك حاجبيه خلال قراءة المذكرة، ويقدم وعداً بدراسة تلك القائمة، وسيستدرك ليؤكد أهمية وقف الحرب في اليمن، ومفاوضات الحل السياسي، ويشدد على محاربة الإرهاب، مشيداً بمناورات “درع الشمال”، والتحالف الإسلامي العسكري، وأهمية التدريب والتنسيق المستمر. مما يعني إبقاء العلاقة عسكرية وأمنية في حدود المصالح الأمريكية في إطار بيع الأسلحة والمشاركة في التدريب، باختصار التواجد الأمريكي الدائم في الخليج.
لن تتمكن أسلحة العالم بأكمله أن تعيد الأمان لدول الخليج الذي ينبني على الثقة بالنفس في المقام الأول. ولن تتمكن أمريكا ودول الإتحاد الأوروبي ودول البريكس مجتمعة أن تصنع الثقة في دول الخليج، إذا فقدت هي ثقتها في نفسها، التي يجب أن تُستمد في الأساس من ثقتها بمجتمعاتها. هذا لم يتفوه به الرئيس الأمريكي، ولن يذكره سوى في مذكراته قريباً. لن يقول الرئيس الأمريكي إلا ما تُحب دول الخليج سماعه، وسيترك لخلفه في البيت الأبيض تحديد منهج التعامل مع دول الخليج مستقبلاً، أما بكذب مشوّق، أو بصدق ممل. سينظر الرئيس الأمريكي إلى خارطة العالم التي طلب من مساعديه أن تكون في قاعة الإجتماعات، ليثبت في تلميح يشبه التصريح أنه بالرغم من عدم إمكانية التعرف على بعض دول الخليج في هذه الخارطة، إلا أن هناك مفارقة عجيبة غريبة، وهي أن واحدة من دول الخليج تقارع مصر وهي أكبر دولة عربية، والأخرى تناطح إيران أكبر دولة فارسية، وأن الدولتين الصغيرتين تتحديان أقدم حضارتين في العالم، بينما تنعمان بحماية القواعد الأمريكية.
لا تشعر دول الخليج بأنها باتت عبئاً على أمريكا والغرب والعالم أجمع. فأمريكا تشعر أنه بالرغم من العلاقات الطويلة نسبيا مع دول الخليج إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحويل دول الخليج إلى مثال يحتذى في التطور السياسي والتنمية البشرية والإجتماعية، فعقود طويلة مرت على هذه العلاقة التي اقتصرت على ثلاثة أمور: النفط والمال والسلاح. لا تشعر دول الخليج باليأس الذي أصاب الساسة في أمريكا بجناحيها الديموقراطي والجمهوري على حد سواء، في إمكانية تطور دول الخليج. حيث بات معلوماً وواضحاً لدى الساسة في الغرب أن دول الخليج من الهشاشة بحيث يهزها ويؤزها مقال في صحيفة النيويورك تايمز، أو الواشنطن بوست، أو دير شبيجل، او الليڤيقارو. وأن تحقيق تلفزيوني في البي بي سي، أو الفوكس نيوز، أو السي إن إن، كفيل بأن ترتعد له فرائص دول الخليج.
ستنتهي الإجتماعات الرسمية، ويخرج الجميع ليواجهوا العالم من خلال عدسات الكاميرات وأسئلة الصحفيين، والمعروف نطاقها ومجالاتها والأجوبة سلفاً، وهنا يظهر تباين وجهات النظر في شكل تطابق والعكس صحيح، فلغة الساسة يتم صياغتها بشكل يحتمل الشيء وضده، الفارق الوحيد هو أن الساسة في الغرب يجتهدون في وزن ما يقولونه بميزان دقيق خوفاً من المسائلة، أما في دول الخليج فالتصريحات سواليف، كما يقول المثل الشعبي، “ممسوحة بزبدة إذا طلعت عليها الشمس ذابت”. وبعد أن يقول الساسة للإعلام رسائلهم الخارجية والداخلية، يتوجه الجميع إلى حفل العشاء ثم التنزه في الهواء الطلق.
يقترب خلال الحفل، نحو الرئيس من الخليج دولتان … يبدو أنهما لم يستوعبان … فيسئلا الرئيس: طيّب، وماذا عن إيران؟ فيرد الرئيس بغضب: ألا تفهمان أم أنتما تستهبلان؟ لم يعد لكم هم سوى إيران .. أتركوكم من الوهم والهذيان .. وافعلوا ما فعلت عُمان .. وفكروا في البطالة والتعليم والصحة والإسكان .. فأنتم تطاولتم في البنيان .. ونسيتم التنمية والإنسان… وبين الأمة والقبيلة .. ضِعتم وضاعت الأوطان. عندها وبصوت شبيه بدويتّو، مشاعل ودنيا بطمه، أنشدا بتوسّل:
ما نبي هذا وذاك .. مانبي إلا هواك .. المشكلة حتى جفاك .. القلب حبه ولاطفه
أطلق أوباما ضحكة خفيفة وذهب. وفي غفلة من الجميع إقتربت دولة خليجية على إستحياء تسأل الرئيس بهمس وأدب: وأنا يافخامة الرئيس، هل لا زالت أمريكا تحبّني؟ فيرد أوباما:
أحبك..
هذا احتمالٌ ضعيفٌ.. ضعيف
فكل الكلام به مثل هذا الكلام السخيف
أحبك.. كنت أحبك.. ثم كرهتك..
ثم عبدتك.. ثم لعنتك..
ثم كتبتك.. ثم محوتك..
ثم لصقتك.. ثم كسرتك..
ثم صنعتك.. ثم هدمتك..
ثم اعتبرتك شمس الشموس.. وغيرت رأيي.
هنا تظهر علامات الدهشة والتعجب على وجه الدولة الخليجية، فيستطرد أوباما:
فلا تعجبي لاختلاف فصولي
فكل الحدائق، فيها الربيع، وفيها الخريف..
هو الثلج بيني وبينك..
ماذا سنفعل؟
إن الشتاء طويلٌ طويل
هو الشك يقطع كل الجسور
ويقفل كل الدروب،
ويغرق كل النخيل.
يرخي الليل سدوله، ويتوقف الرئيس حينها عن النثر والشعر، وتُطرِق الدولة الخليجية في التفكّر مليّا لمحاولة فهم ماقاله الرئيس الأمريكي بشعر عربي حداثي ليبرالي وعلماني، فلو قاله بشعر نبطي أو على لحن الشيلات فلربما تم فهمه. وهنا يتوقف المشهد، وتستمر العلاقات، وتستمر المعاناة، وتستمر إيران، ويستمر عدم الفهم، ويستمر التسليح الأمريكي، والتدريب الأمريكي، والوجود الأمريكي. عندها جاء كاتب هذه السطور يسأل وزير الخارجية الأمريكي: وش السالفة؟ وبصوت شبيه بعبدالمجيد عبدالله رد جون كيري: ابتدينا بالنظر .. في سكوت وحذر .. وانتهينا بالسهر .. وارتوينا عاطفة .. هذي كل السالفة.
صحيفة أنحاء
أضيف بتاريخ :2016/04/10