المصنع والدولار
عامر محسن
«تخوض الصين، تحت إشراف الحزب الشيوعي، تجربة اجتماعية وسياسية عملاقة وفريدة، ينخرط فيها سدس البشرية؛ هو مشروعٌ تاريخي يتقزّم أمامه مشروع الرأسمالية الديمقراطية في شمال الأطلسي»
«استعمل الماضي لتخدم الحاضر، واستخدم الأجنبي لتخدم الصين»
التشبيه ليس دقيقاً، ولكن من الممكن، لتقريب الموضوع، أن نقارن بين امتياز أميركا في إصدار الدولار اليوم، وبين استحصال الإسبان والبرتغاليين على موارد هائلة من الفضّة من «العالم الجديد» في القرن السادس عشر. في الحالتين، أنت تملك القدرة على «إنتاج» العملة، واستخدام هذه الفضّة التي تأتي من مناجم الأنديز لشراء ما تريده من غير أن تضطرّ إلى إنتاج سلعٍ بقيمة موازية تصدّرها في الاتجاه المعاكس، فكتلة الفضّة ـــــ أو الدولارات ـــــ ليست ثابتة حتى تستنزف احتياطاتك عبر الاستيراد، بل أنت تضيف إليها باستمرار، وطالما هناك طلبٌ على هذه العملة التي تمتلك امتياز إصدارها (والهند والصين كان لديهما سوقٌ يطلب ويستوعب أي كمية من الفضّة يمكن أن ترسلها إليه، مثل الطلب العالمي على الدولار اليوم، الذي يبدو وكأنه لا ينضب)، فإنّ في وسعك ــــــ نظرياً ــــــ أن تستفيد من هذا الريع إلى الأبد (أميركا الجنوبية غنية بالفضّة أكثر من الذهب، وقد استهلك الغزاة الأوروبيون مناجم الذهب هناك، بشكلٍ سريعٍ جدّاً، في بداية استعمار أميركا، واستحصلوا على كميات أكبر من «السطح»، أي عبر مصادرة الذهب الذي استخرجه أهل البلاد الأصليون على مرّ القرون، وسرقة حليّهم ومعابدهم وقصورهم. ثمّ أصبحت الفضة هي المورد الأساسي الآتي من أميركا).
لا يجب أن نفكّر بأمور مثل الفضّة الإسبانية على طريقة«جزيرة الكنز»، فالفضّة هنا ليست معدناً ثميناً وقع عليه الإسبان بالحظ وهم «يستكشفون»، بل هي رمز: انعكاسٌ لهيمنةٍ عسكريةٍ وسياسية تقدر على غزو مساحات واسعة من سطح الكوكب وتسخير مواردها (وعمل من تبقّى من أهلها) لمصلحة التاج. تماماً كما أنّ الدولار ليس «شيئاً» له قيمة كامنة فيه، بل هو رمزٌ أو تكثيفٌ للقوة الأميركية على مستوى العالم، وقدرتها على خلق القيمة وتحديدها.
هذا «الريع الإمبراطوري» يعطيك مزايا كثيرة، هو يسمح لك بالاستيراد بحرية كما أسلفنا، ويسمح لك أيضاً ببناء جيشٍ كبير ـــــ وهو ما فعله الإسبان والأميركيون ــــــ والاستثمار في الأبحاث ومؤسّسات الدولة. وهو أيضاً يعطي قوة شرائية كبيرة لمن يستفيد من هذا الريع في بلاد المركز، أي أنّ بلداً مثل أميركا سيقدر على جذب أفضل العقول في العالم، وتأمين مستوى حياة مرتفع لهم، فيصبح الإنسان المنتج والماهر والتاجر يريد أن يعيش ويستثمر لديك. ولكن، من جهةٍ أخرى، فإنّ النتائج تتوقّف على النموذج الذي يمرّ هذا الريع عبره، وليس على وجوده فحسب. في أيبيريا، كما هو معروف، تحوّل فيض الفضّة إلى نقمة على الاقتصاد: الإسبان لم يستخدموا وفرة المعادن لشراء السلع الشرقية فحسب، بل أصبحوا يستوردون الطعام والأخشاب والمواد الأولية من محيطهم الأوروبي، ولم يعد إنتاجهم تنافسياً (هناك بالطبع أسباب أخرى لذلك، مثل ترحيل العرب الذين كانت بينهم فئات تملك الخبرة في استثمار الأراضي الزراعية، ويبدو أنّ الإنتاج الزراعي في إسبانيا لم يتعافَ بعدها ـــــ ولكن هذا موضوع آخر). يقال إنّه، بسبب طبيعة النظام واحتكاره للموارد التجارية، لم يعد هناك من عملٍ في إسبانيا سوى في الدولة أو الجيش أو الكنيسة، حتى التجارة الخارجية تسلّمتها فئات أجنبية من جنوى وإيطاليا. فوق ذلك، فإنّ المبالغة في استخراج الفضّة ورميها في السوق خلَقت تضخّماً و«ثورات سعريّة»، حيث تزداد قيمة السلع بالنسبة إلى قيمة المعادن، وتزداد بالتالي مصاريف الدولة الإسبانية وحاجاتها. حين وصل العرش إلى يد فيليب الثاني في أواخر القرن السادس عشر، كان التاج الإسباني ـــــ أكبر قوة بلا منازع في العالم الأوروبي يومها ــــــ واقعاً في الإفلاس.
الفكرة الرائجة، هي أنّ طبيعة المنظومة السياسية في إسبانيا، و«فلسفتها الاقتصادية»، هما اللتان منعتا الإمبراطورية من التوسّع والنجاح، فيما استخدم الهولنديون والبريطانيون الريع بأشكال مختلفة و«منتجة». والسؤال حول مصير الدولار الأميركي مشابه: هل تتمكّن أميركا من استخدام «امتيازها الإمبراطوري» لبناء اقتصادٍ متقدّم، وأفضلية تكنولوجية لا يمكن لأحد تحديها، أم ستبالغ بالاستيراد ورمي الدولار في الأسواق، معتمدة بشكلٍ متزايد، لإدامة نظام الدولار، على القوة العسكرية والفرض والحلفاء النفطيين؟
التراكم السريع
واجهت الصين خياراً مشابهاً في العقود الماضية. في مقالٍ في «لندن ريفيو أوف بوكس»، يستعرض آدم توز مختلف وجهات النظر حول صعود الصين والمواجهة الأميركية معها، وبينها رأيٌ مثير لباحثين هما ماثيو كلاين ومايكل بيتيس. يشرح بيتيس وكلاين أنّ نظام الدولار الأميركي استند، منذ عام 1989، على دينامية التصنيع والتصدير بين أميركا وأوروبا من جهة، والصين وألمانيا من جهة ثانية. أخذ البلدان الدور الذي كانت تلعبه اليابان وشرق آسيا في السبعينيات، وأوروبا الغربية قبلها، كـ«المصنع» الذي ينتج للتصدير مقابل الدولارات الأميركية. هذه العملية، كان عمادها الدولار والعمالة الرخيصة: استندت ألمانيا على انفتاحها على عمالة شرق أوروبا وألمانيا الشرقية لتعزيز قطاعها التصديري، يقول الكاتبان، فيما اعتمدت الصين استراتيجية لاستثمار رخص اليد العاملة فيها لتشجيع الصادرات. هذا استلزم، بحسب الكاتبين، كبح استهلاك العمّال (وحقوقهم) مقابل تشجيع الاستثمار في مرحلة الصعود هذه. مع أنّ النمو الاقتصادي رفع دخل ومستوى جميع الصينيين، إلّا أنّ نسبة استهلاك المواطنين من الدخل القومي انخفضت بشكلٍ كبير عن الماضي، بحسب الباحثين، وارتفع الادّخار إلى مستويات قياسية رغم إبقاء معدّلات الفائدة منخفضةً بشكلٍ كبير لتشجيع الاستثمار.
بتعابير أخرى، قرّرت القيادة الصينية منذ بداية التسعينيات، أنّ البلد في حاجة إلى استثمارٍ وتكنولوجيا، وأنّ ذلك لن يتوفّر إلّا عبر الاندماج في المنظومة العالمية عبر قطاع تصديرٍ متفوّق يجلب شركات أجنبية وينتج فوائضَ من الدولارات (يجب أن نتذكّر أنّ المراحل الأولى من الانفتاح في الصين، خلال الثمانينيات، لم تكن كلّها سهلة وناجحة، وواجه البلد أكثر من أزمةٍ في الميزان التجاري والمالية العامة في تلك السنوات). ولكنّ هذا التفسير، عندي، هو نصف القصة لا أكثر. حتّى نفهم التجربة الصينية و«النموذج» الذي خرجت منه، يجب أن نبدأ بمفارقة المفهوم الشائع عن «التراكم البدائي»، حيث انخفاض أجر العمالة يتحوّل، بشكلٍ ميكانيكي، إلى صناعات وتصدير.
إن كان السلاح الأميركي الأهم في هذه المعركة، الدولار، هو نتاج تاريخٍ من الهيمنة والقدرة العسكرية، فإنّ سلاح الصين هو نموذجها الفريد
لو كانت هذه هي المعادلة، لانتقلت كلّ صناعات العالم إلى أفريقيا منذ سنوات طويلة. ولكنّ الطبقة العاملة في العصر الحديث ليست «مادّة خام» موجودة بشكلها الطبيعي، تبني قربها مصنعاً وتبدأ بالتصدير. «اليد العاملة» هي أيضاً تحتاج إلى تصنيع. حتّى نقرّب الموضوع: هل يمكن مثلاً أن تقوم شركات عالمية بالاعتماد على عمّالٍ لم يحصل أحدٌ فيهم على شهادة مدرسية، وأن يشغّلوا معاملها وإنتاجها؟ هل يمكن أن توظّف ملايين العمّال في عملية معقّدة من دون أن يكونوا محاطين بنظام رعاية صحية وتقاعد، ومساكن ووسائل نقل؟ هل كان من الممكن أن تقام القاعدة الصناعية التي خرجت في الصين، منذ التسعينيات، في دولةٍ ليست فيها لوجستيات حديثة وإمكانية لنقل السلع من المعمل إلى المرفأ؟ أو قطاع صناعي متقدّم وكثيف وآلاف المورّدين المحليين يخدمون حاجاتك، فلا تضطرّ إلى استيراد كلّ قطعةٍ تحتاج إليها؟ هذا من دون الكلام عن مستوى سيادة القانون وحقوق الملكية والاستقرار السياسي.
بل، قبل ذلك، لماذا تحوّلت الصين إلى مصنع العالم وليس الهند مثلاً؟ والبلدان أطلقا «الانفتاح» في مرحلة متقاربة، والاثنان يملكان كتلة سكانية هائلة منخفضة الأجر. في الحقيقة، أنا لا أفهم لماذا، حين يجري الحديث عن «النموذج» الذي يفترض ببلاد الجنوب أن تعتمده، لا يتم التركيز على المقارنة بين الهند والصّين، وهي أكثر المقارنات واقعية ودلالة (عام 1990، كان الدخل الفردي للبلدين متساوياً ــــــ بالقيمة الدولارية ــــــ واليوم دخل الفرد الصيني يوازي خمسة أضعاف دخل الهندي تقريباً).
لهذا السبب، يخطئ من يظنّ أنه بالإمكان «نقل» المصنع الصيني الهائل وتوزيعه على بلادٍ مثل فيتنام أو تايلاند، أو هم لا يفهمون حجم الإنتاج الصيني والاستثمار والشروط التي تحتاج إليها لأجل استبداله. لهذا السبب أيضاً، حين انفتحت الصين على الخارج، فهي لم تتمكّن من «جذب» الرساميل الأجنبية فحسب، بل هي أجبرتها على الدخول في شراكاتٍ مع الشركات المحلية ونقل التكنولوجيا إليها، وذلك لأنّ ما كانت تقدّمه الصين لعملية الإنتاج الدولية لم يكن هناك من شبيهٍ له (اليوم، ومنذ سنوات قليلة، بدأت الحكومة الصينية بالسماح للشركات الأجنبية بامتلاك كامل عملياتها في الصين، ولكن ذلك لأنّ البلد لم يعد في حاجة إلى «استيراد التكنولوجيا» من الغربيين على الطريقة القديمة، والصين تستدخل شركات أجنبية إلى سوقها ــــــ كحالة «تسلا» وسياراتها الكهربائية ـــــــ أساساً لإجبار الشركات الصينية على التنافس مع معايير عالمية مرتفعة واللحاق بتكنولوجيا متفوّقة).
الفكرة هنا ليست، فقط، في أنّ الحزب الشيوعي الصيني قد عرف كيف يستخدم القاعدة الصناعية والبشرية التي بنتها الثورة منذ عام 1949 لخلق محرّك إنتاجٍ وتصدير عالمي في التسعينيات، بل هي في أنّ إدارة هذه العمليّة الهائلة، واستيعاب النمو السريع وحاجياته ــــــ ثمّ استخدام عائدات التصدير داخلياً لنقل البلد إلى حالة نوعيّة جديدة ــــــ هي عمليّة لا يقدر أي نظامٍ عليها. بتعابير أخرى، نظّمت الحكومة الصينية، وبشكلٍ مركزيٍّ ومن فوق، تجربة تاريخية لخلق القيمة ومن ثمّ استثمارها في الداخل. وهنا، يكمن الفارق الأساسي بين «النموذج» الأميركي ونظيره الصيني، وليس في المنظومة الانتخابية أو درجة «حرية السوق». يستحضر الكثيرون، في هذا المجال، نجاح الصين في بناء أو توسيع عشرات المدن، وإسكان مئات الملايين من النازحين من الريف، ولكن سنعطي مثالاً مختلفاً عن الظاهرة نفسها: حين بدأت الصين ببناء خطوط القطارات السريعة (وهي كانت حكراً على عدد قليل من الدول المتقدّمة، كاليابان وفرنسا)، ثم توسّعت في بنائها بشكلٍ محموم في السنوات العشر الماضية، آلاف الكيلومترات من الخطوط الجديدة سنوياً، كان من الصعب استيعاب حجم ومعنى هذا البناء السريع ــــــ كالكثير من مشاريع الصين الهائلة، التي تتجاوز المعايير والأحجام التي نعهدها. ولكنّك، حين تنظر إلى مطارات الصين اليوم، تفهم أنّ الأمر كان وليدة تخطيطٍ واضطرار، وليس جهداً ــــــ على طريقة دبي ــــــ لكسر الأرقام القياسية. الصين بلدٌ كثيف للغاية، وفيه عشرات المدن الضخمة في مساحة صغيرة نسبياً. حين يبدأ هذا البلد بالنمو والسكان بالسفر أكثر، من المستحيل أن تقوم المطارات الداخلية باستيعاب هذه الأعداد من المسافرين (فالمقاييس هنا لا تشبه أوروبا الغربية أو أميركا). ومطارات الصين مزدحمة اليوم، رغم أنّ أكثر الناس ينتقلون عبر القطارات الحديثة، أي أنّ مثل هذه الشبكة، لو لم يتم التخطيط لها مسبقاً وتنفيذها كـ«مشروع استراتيجي»، لكانت البنية التحتية اليوم تضع حدوداً على النموّ، أو تجعل السفر داخل الصين غالياً وصعباً. إن كان الإنجاز الأهم لـ«المرحلة الماوية» هو في تحديث الصين، وتأسيس «قاعدة» مستقرّة للريف والعمّال في البلد، فإنّ إنجاز مرحلة ما بعد 1978 يتلخّص في رعاية واستيعاب النمو التاريخي، الذي شهدته الصين عبر اندماجها في الاقتصاد العالمي واستثماره داخلياً.
الأيديولوجيا والتراث
في ندوةٍ أكاديمية حول الصين، قام الأستاذ الأميركي ــــــ عرضاً ــــــ باستخدام السردية الغربية الرائجة عن أنّ الصين قد «صحّحت» مسارها عام 1978، وهي بذلك نالت الازدهار. فقاطعه فوراً الباحث الصيني، من دون دبلوماسية، ليشرح له بأنّ معدّل سن الصيني كان 42 سنة عام 1949 (أي أنّه، المتحدّث، كان قد تجاوز حظه من الحياة بمقاييس تلك المرحلة)، وأنّه لا يمكن رؤية ما يجري في الصين اليوم على أنّه حالة «قطع» مع ثورة 1949. للحقّ، فإنّ الكثير من النقاشات النظرية التي تلخّص تاريخ الصين السياسي على أنه مواجهة أيديولوجية بين معسكرين متقابلين (اشتراكي / معاد للاشتراكية) تتجاهل أنّ أكثر الكوادر والقادة الصينيين لم يكونوا «مؤدلجين» بالطريقة التي نفهمها. أي أنّ غالبيتهم لم تكن لا ماويّة متشدّدة، تؤمن بضرورة تطبيق نموذجٍ نظري ماركسي فوق كل شيء، ولا ليبرالية «شرسة» تؤمن بشكل أعمى بسيادة السوق. شرحنا في مقالٍ سابق عن التيار الوسطي (يسميه بعض الباحثين «شعبوي») والذي كان هو غالباً من يحسم الأمور داخل النظام، ويمثّل التيار الأوسع الذي لا يعتنق الماركسية اللينينية على طريقة الناشطين الأوروبيين في أوائل القرن العشرين، بل يراها أساساً كـ«حلّ» لمشاكل الصين وتحدّياتها في السياق الذي وجدت نفسها فيه (وهذا من الأسباب التي تجعل عدد الماويين «الأصوليين» خارج الصين أكبر من عددهم داخلها، مع العلم أنّ هناك تياراً ماوياً صاعداً بين الشباب هناك، ولكنّهم، على عكس الماوي الأوروبي، يخرجون من الجامعات ويعملون في المصانع ويعيشون بين العمّال وينظمونهم، على طريقة معلمهم فعلاً). حين تقرأ كتابات ليو شاوتشي، مثلاً، فهي تركّز على صورة للحزب الشيوعي كأنّه «عقل الأمّة»، النخبة التي تفكّر وتخطّط للمصلحة العامة، شكلٌ محدّث عن الدولة الإمبراطورية التنموية، ولذلك تجد في كتاباته الكثير من الوصايا عن ضرورة خلق «الحزبي المثالي». الكادر المدرّب، النزيه، الذي يفكّر في خير الجماعة، ويؤمن بضرورة الإصلاح المستمر وتقبُّل الأفكار الجديدة. كأنّه يعدّد صفات العنصر الصالح للمشاركة في هذه النخبة الحاكمة. وستجد أنّ إصلاحات تشي جينبينغ تستوحي من هذه الأفكار على الأقل، بقدر ما تستوحي من الكتاب الأحمر (كمثال قيامه بـ«تطهير» ما يقارب 1.4 مليون حزبي في حملةٍ كبرى ضد الفساد). يقول الباحث بيتر نولان (نيو ليفت ريفيو، كانون الثاني 2019) إنّ من الأسباب التي جعلت التجربة الصينية تختلف عن التجربة السوفياتية في الإصلاح والانفتاح، هو أنّ الصينيين كانوا يملكون «تراثاً» للحاكمية من أيام النظام القديم، قدّمت لهم ما يشبه فلسفةً لإدارة الإصلاح بينما السوفيات، حين أرادوا «العبور إلى الضفة الأخرى»، لم يكونوا يملكون سوى الماضي القيصري وأفكار رومانسية، بدائية ومتخيّلة، عن مفهوم الليبرالية والسوق. للحق، فإنّ هناك موجةً بين المؤرّخين الصينيين تقوم على إعادة النظر في التقسيمات القديمة والبحث عن الاستمرارية بين النظام القديم ونظام الحزب الشيوعي (على طريقة المدرسة التاريخية التي أعادت تقييم الثورة الفرنسية على أنها استمرار وتحديث للنظام الملَكي المركزي). البعض يذهب بهذا المنطق إلى حدودٍ بعيدة، كأن يقول بأنّ ثورة 1911 «لم تكن ضرورية»، مثلاً، لأنّ إمبراطورية «تشين» وبلاطها الذي اعتمد منهج التحديث، منذ أواخر القرن التاسع عشر، كانت ستقوم بالمهمة ذاتها (تحديث، تصنيع، إصلاح زراعي، إلخ) لولا أنّ الثورة قامت، وهي كانت أصلاً في طريق التحوّل إلى ملكية دستورية. أو أنّ نظام 1949 لم ينجح إلّا لأنّه ورث هذا النظام البيروقراطي الإمبراطوري (بإداراته وكوادره وصولاً إلى نظام اختبار الموظفين واختيارهم) وتمكّن من توظيفه في مشروعه.
من دون استشراق أو الكلام عن «جوهر» يلخّص الثقافة الصينية أو ما شابه، علينا أن نتذكّر أنّ الكثير من منهجيات الحزب الشيوعي لا تتعارض مع التراث الصيني. يشرح نولان أنّه، في الكونفوشيوسية، تعتبر الخدمة العامّة وتحقيق مصلحة الجماعة من أرقى حالات الوجود، وهي واجبٌ أخلاقي لمن يصل إلى رتبة القيادة. أو الربط الذي أقامه فلاسفة حداثيون مثل فينغ يولان (في أوائل القرن العشرين) بين الاشتراكية والفلسفة الشرقية: «حين كان التاو العظيم متحقّقاً في الواقع، كان العالم مشاعاً للجميع». بينما مقولة أخرى يقتبسها نولان من نوع «أنّ السوق يمكن أن يخدم مصلحة الكلّ… ولكن لا يجب أن يُسمح للسوق بتقرير وفرة السلع أو ندرتها» قد تكون مأخوذة من خطابٍ لمسؤول في الحزب الشيوعي الصيني اليوم، ولكنّها حقيقةً لغوان جونغ، مستشار دولة «تشي» الصينية في القرن السابع قبل الميلاد.
خاتمة
ما يجري اليوم هو أنّ منظومة التسعينيات، حيث العالم يشكّل بأسره «وحدة إنتاج» مترابطة، والدولار هو العملة الرسمية فيه، والصين مصنع العالم، إلخ... توشك على الانتهاء. قد تحصل مواجهة وتحاول أميركا عزل الصين، وقد ينقسم العالم إلى أكثر من كتلة اقتصادية، وقد تنهار التجارة الدولية. وإن كان السلاح ــــــ والامتياز ـــــــ الأميركي الأهمّ والأمضى في هذه المعركة، الدولار، هو نتاج تاريخٍ من الهيمنة والقدرة العسكرية، فإنّ سلاح الصين هو نموذجها الفريد، الذي لا نقدر على الإحاطة به بتبسيطٍ وسهولة (وقد أثبتت غالبية التنظيرات والتوصيفات الغربية له عن قصورها).
وبالنسبة إلى بلادنا، حيث يتمّ باستمرار عرض «نماذج» أو فرضها علينا، فإنّ الدرس من القرن الماضي هو أن نخرج من تبسيطية «الإصلاح المؤسّسي»؛ الفكرة الرائجة التي تعتبر أنّ عالمك يبدأ وينتهي ضمن حدودك، وكلّ ما عليك فعله هو بناء مؤسسات «مطابقة للمواصفات» حتى يزدهر اقتصادك ويختفي الفساد وتنضمّ إلى العالم المتقدِّم. «النموذج» يبدأ من السياسة، وينطلق من خارج بلدك، أو من علاقتك بهذا الخارج ومن موقعك التاريخي فيه. من أسوأ الأوهام التي خلقها عهد الاستقلال لدى الدول الصغيرة، هو التصديق بأنّك أصبحت تنتمي بتساوٍ إلى نادي الدول السيّدة، ولديك اقتصادٌ هو كوحدةٍ مستقلّة، تديرها من داخلها بوسائط «تقنية». فيما الحقيقة هي أنّ مصيرك وحظوظك يتمّ تقريرها في مكانٍ آخر، والاقتصاد «يُصنع» على المستوى العالمي، والقيمة تولد من ساحات الحرب.
جريدة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/09/10