عناصر المناورة التركية بين شرقي المتوسط وناغورنو كاراباخ
شارل أبي نادر
تبقى الأعين شاخصة على دور تركيا وأبعاد تدخلها في هذين الملفين الحساسين، وكيف تعمل على ربطهما ببعضهما ولأي هدف.
أي متابع يشاهد ما تقوم به تركيا اليوم وعلى عدة جبهات، يجد بعداً غريباً يحيط بالموقف التركي المتشعب، حيث تواجه أنقرة وفي عدة ملفات بشكل متزامن، كوكبة من القوى الكبرى أو بالأحرى، تواجه أقوى الأطراف الدوليين الذين يتقاسمون السيطرة والنفوذ على أكبر مساحة من العالم حالياً، فهل تمتلك تركيا القدرة على خوض هذه المواجهة غير المتكافئة؟ وعلامَ تقوم مناورتها الحساسة، لاسيما في أصعب الملفات تداخلاً وخطورةً في العالم؟
بمعزل عن الملف السوري المفتوح ودور تركيا الأساسي في عرقلته وتعقيده، منذ بداية الحرب على سوريا وحتى اليوم، وبمعزل عن ملف اللاجئين السوريين إلى أوروبا، وتورّط أنقرة في انفلاش المواجهة إزاء الإتحاد الاوروبي بشكل علني والتي تجلّت بفتح حدودها مع اليونان أمام تدفق هؤلاء غرباً، وبمعزل عن الملف الليبي الذي ساهمت تركيا برفع نسبة التوتر فيه عسكرياً عبر زج آلاف الإرهابيين من سوريا ودعم وحدات حكومة الوفاق بالأسلحة وخاصة بالطائرات المسيّرة الفتاكة، وسياسياً عبر مدّ حكومة السراج بدعم غير محدود، مما أعاد لها دوراً كانت بدأت تفقده عند محاصرة جيش حفتر لمعقلها الأساسي في العاصمة طرابلس... تبقى الأعين شاخصة على الدور التركي وأبعاد تدخل أنقرة في ملفين حساسين، وكيف تعمل على ربطهما ببعضهما ولأي هدف.
هذان الملفان هما: (ملف ناغورنو كاراباخ) أو ملف الصراع التاريخي بين أذربيجان وبين أرمينيا، و(ملف شرق المتوسط) أو ملف التنقيب عن الغاز في مناطق بحرية يونانية، يعطي القانون الدولي لأثينا صلاحية التنقيب عن الغاز والنفط فيها دون أنقرة.
ملف ناغورنو كاراباخ
تحاول تركيا جاهدة نفي تدخلها المباشر في هذا الملف، حيث المواجهة العسكرية الشرسة انطلقت بسبب تنفيذ الوحدات الأذرية هجوماً على إقليم ناغورنو كاراباخ ذي الأغلبية الأرمينية، وهي (أنقرة) تقول إنها تدعم حكومة باكو في عمليتها لاسترجاع أراضٍ أذرية كانت سيطرت عليها وحدات أرمينية بين عامي 1990 و1993، ولكنها لا تعترف بمدّ الوحدات الأذرية بأسراب من الطائرات المسيّرة التركية التي كان لها دوراً أساسياً في ترجيح كفّة الميزان العسكري لصالح الوحدات الأذريّة، وتنكر أيضاً تواجد عناصرها في المعركة، متناسية أنها المسؤولة الأولى عن نقل آلاف الإرهابيين المرتزقة من سوريا ومن ليبيا للقتال في الهجوم على كاراباخ.
حتى الآن، وبسبب استبعاد أنقرة عن المشاركة في اجتماعات موسكو لتثبيت وقف النار، ما زالت العمليات العسكرية مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها سيطرة الوحدات الذرية على مناطق جنوبية وشمالية من الإقليم الأرميني.
نقطة الارتكاز التركية في تدخلها ودعمها الواسع والكبير لأذربيجان، بالإضافة للعلاقات التاريخية والاقتصادية والعرقية والدينية معها، تستند (بالنسبة لأنقرة) على القانون الدولي لاستعادة الإقليم تحت سيطرة الحكومة الأذرية، على أساس أن الأمم المتحدة لم تعترف باستقلال الإقليم، كما صدرت عدة قرارات من مجلس الأمن تقضي بعودة سلطة باكو إلى الإقليم المذكور، ولم تُنفّذ تلك القرارات الأممية حتى الآن، وتعزو أنقرة سبب ذلك – حسب مسؤوليها وبمقدمتهم الرئيس إردوغان - إلى الدعم الروسي والأوروبي والأميركي لأرمينيا في هذا الملف، بشكل يتعارض مع القانون الدولي الذي يرعى سلطة أذربيجان على ناغورنو كاراباخ.
ملف الغاز في شرقي المتوسط
لم تكد تختفي سفينة التنقيب التركية عن المياه الاقتصادية الخالصة لليونان عدة أيام، حتى عادت لإتمام مهمتها، تلك المهمة (التنقيب عن الغاز) التي كانت قد أثارت سابقاً حفيظة الاتحاد الأوروبي واليونان طبعاً؛ تراجعت هذه المهمة قليلاً سابقاً، بعد طلب أميركي مباشر، وبعد تهديد دول حوض المتوسط في الإتحاد الأوروبي (سبعة دول) بقيادة فرنسا وبرعايتها القوية، بفرض عقوبات أوروبية على تركيا، الأمر الذي سيلحق الضرر الجسيم بأنقرة فيما لو تمّ فرضها.
التبرير التركي الذي تستند عليه أنقرة في هذا الملف يقوم على التالي:
"تحاول اليونان السيطرة على جميع الموارد الاقتصادية في حوض البحر المتوسط، وحصار تركيا في شريط ضيّق رغم أنها تمتلك واجهة بحرية واسعة على بحر إيجة والمتوسط، متذرعة بجزيرة "كاستيلوريزو" باليونانية و"ميس" بالتركية، وتبلغ مساحتها 10 كيلومترات مربعة، وتبعد عن البرّ اليوناني نحو 580 كيلومتراً، وهي تابعة لها عملياً بموجب اتفاقيات دولية، وتبعد عن البر التركي نحو كيلومترين اثنين. في هذا المضمار، تطالب اليونان بجرف قاري لهذه الجزيرة على مساحة 40 ألف كيلومتر، لكن تركيا ترى إنه من غير المنطقي المطالبة بجرف قاري بمساحة 40 ألف كيلومتر لهذه الجزيرة، وإن هذا الأمر مخالف للقانون الدولي، استناداً لأحد مبادىء توزيع المناطق البحرية على الدول تبعاً للقانون الدولي وهو مبدأ التوزيع العادل".
وهكذا نرى أن عناصر المناورة التركية في انخراطها في هذين الملفين الحساسين، تقوم على التالي:
من جهة أولى، تضغط تركيا في أذربيجان داعمةً الحكومة الأذرية على اعتبار أن أرمينيا وعبر سلطة ناغورنو غير المعترف بها، قد احتلت أراضٍ أذرية بين عامي 1991 و1993، وتعتبر تركيا بأنه وإن كانت هذه المناطق هي تاريخياً لأرمينيا وتمّ سلخها قبل الحرب العالمية الأولى، فقد تم تثبيتها (منطقة أذرية) بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كمرحلة أولى، ولاحقاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي واستقلال أذربيجان كمرحلة ثانية، وذلك – حسب تركيا طبعاً – استنادا للقانون الدولي.
من جهة أخرى، تضغط تركيا في شرقي المتوسط، خاصة ضد اليونان لإعادة توزيع المياه الإقتصادية الخالصة قبالة جزيرة ميس والتي أعلنها المجتمع الدولي ملكاً لليونان بعد الحرب العالمية الثانية. تعتبر تركيا هنا، أن القانون الدولي الذي أعطى اليونان السلطة على جزيرة ميس بعد معاهدة لوزان وتقسيم أراضي السلطنة العثمانية، هو نفسه الذي أعطى أذربيجان السلطة على ناغورنو كاراباخ، فكيف يجوز – حسب المزاعم التركية – أن يدعم المجتمع الدولي اليونان في ملكيتها لجزيرة ميس استنادا للقانون الدولي، وبموازاة ذلك، يقوم هذا المجتمع الدولي نفسه، بدعم أرمينيا من خلال الإبقاء على سيطرة الوحدات الأرمينية على إقليم ناغورنو كاراباخ؟
من هنا يمكن أن نستشفّ هذه الشراسة التركية والاندفاع في ملفين حساسين، حيث تسعى أنقرة وبشكل خطر وجريء إلى جرّ المجتمع الدولي للبت بالقضيتين بنفس المقاربة القانونية الدولية من خلال إجراء مقارنة: أذربيجان وناغورنو من جهة، وجزيرة ميس اليونانية من جهة أخرى، ولكي تقول لهذا المجتمع الدولي:
"إذا كنت تريد أن تطبّق القانون الدولي في جزيرة ميس يجب أن تطبّقه في كاراباخ، وإذا كنتَ لا تريد أن تطبّقه في كاراباخ فلا يجوز عليك تطبيقه إذن في جزيرة ميس".
الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/10/19