أين القدس الشريف في ردود الفعل على الإساءة لمعتقدات المسلمين؟!
د. صبحي غندور
من حقّ المسلمين أينما كانوا أن يعترضوا وأن يرفضوا وأن يستنكروا الإساءات التي تنال من شخص النبي محمد (عليه الصلاة والسلام)، في صحف أوروربية عادة ما تكون مجهولة عالمياً قبل ردود الفعل على أعمالها المسيئة لمعتقدات دينية. فالمسلمون يرفضون الإساءة لأنبياء الله كافّة ولا يسمحون بتشخيصهم (وإن جاء التشخيص بأبهى صورة) فكيف إذا طال الاستهزاء خاتم النبيّين، من وصفه القرآن الكريم بأنّه “على خُلُقٍ عظيم” ومن أرسله الله تعالى “رحمةً للعالمين”، كما جرى في رسوم كاريكاتورية داخل بعض الدول الأوروبية.
إلاّ أن هذه الرسوم، رغم ما فيها من إساءة، أولى أن تُدرك الأسباب وراءها، وألا يتحقّق لمفتعليها ما يسعون إليه من ردّات فعل عشوائية تخدم مراميهم. فالإسلام دعوة لأمّة الوسط والاعتدال والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، أمّة العقل التي أراد الله للإنسانية، بوجود هذ الدعوة، أن تبلغ قمّة رشدها.
إنّ التصرف العقلاني يستوجب من مسلمي الدول التي تنشر هذه الرسومات أن يقاضوا الصحف المسيئة قانونياً وألا يكتفوا بطلب الاعتذار، وبأن يرسلوا سلسلة من المقالات التي تردّ على مضمونها السياسي، وعلى من يدافعون عنها، وعلى محاولات ربط الإسلام بالإرهاب، وبأن يتمّ التعامل مع القضيّة بالإطارين الإعلامي والقانوني داخل هذه الدول، اعتماداً على حقّ الردّ على إساءات طالت جالية إسلاميّة كبيرة. هذا على الأقل ما يفعله المسلمون في أميركا تجاه حالاتٍ من الإساءة والتشهير والتمييز في عدّة وسائل إعلاميّة أو على لسان شخصيّات أميركيّة فاعلة بالمجتمع الأميركي. فالرسوم الكاريكاتوريّة بصحفٍ أوروبية هي “غيض من فيض” في تشويهٍ للإسلام حدث ويحدث في معظم بلدان العالم، خاصّة بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001 .
ومن واجب الشخصيّات الإسلاميّة، الدينيّة والسياسية والإعلاميّة، التي يعلو صوتها الآن ضد فرنسا في وسائل الإعلام، أن تتوجّه إلى العرب والمسلمين بفضح غايات من هم كانوا أصلاً وراء نشر هذه الرسوم الكاريكاتوريّة وغيرها من الإساءات للإسلام والمسلمين في دول الغرب، وبأن تنبّه عامّة المسلمين إلى الفخّ المنصوب لهم لخدمة جملة أهداف تريد فرز عالم اليوم بين “شرق إسلامي” موصوف بالإرهاب و”غرب مسيحي” محكوم بالعلمانيّة وبأنظمة تتصف بالديمقراطيّة!. غايات كتب عنها الكثير من مثقّفي بلدان العالم الإسلامي منذ نهاية الاتحاد السوفيتي وأفول عصر “الشرق الشيوعي” و”الغرب الرأسمالي” في بداية حقبة التسعينات. غايات امتزجت مع السعي الإسرائيليّ المحموم لجعل العرب والمسلمين هم العدو الجديد للغرب بحيث تبقى هناك ضرورة غربيّة للحفاظ على دعم إسرائيل ودورها في الشرق العربي والإسلامي.
أيضاً، أولى بالحكومات العربيّة والإسلاميّة وبالمسلمين أصحاب المؤسّسات التجاريّة الكبرى على امتداد دول الغرب، أن يخصّصوا نسبة زهيدة جداً من أموالهم الطائلة لصالح عرض أفضل للإسلام والعروبة في دول الغرب، ولدعم المؤسسات العربية والإسلامية التي تقوم بذلك من خلال الدفاع العقلاني، فكرياً وثقافياً وإعلامياً، عن الصورة المشوّهة للعرب والمسلمين.
إذ ما هي الحكمة من تأجيج مشاعر العداء بين بلدان العالم الإسلامي وباقي العالم، وهل ردود الفعل الانفعالية توقف الإساءات أم تعمّقها وتزيدها وتنفع غايات أصحابها المعروفين والمجهولين؟
هناك إساءات كبرى لمبادئ الإسلام وقيمه تحصل على أرض المنطقة العربيّة وبلدان العالم الإسلامي وتستحقّ صرخة الغضب والفعل السليم للتعامل معها.. فلماذا لا تستيقظ الهمم العربيّة والإسلاميّة على قضايا واقعيّة على أرضهم وفيها الكثير من الإساءة لما جاء به القرآن الكريم والسيرة النبويّة الشريفة؟
ولماذا لا يكون احتلال القدس (أولى القبلتين) والمسجد الأقصى (ثالث الحرمين) لأكثر من خمسين عاماً أشدّ إيلاماً على المسلمين في العالم من إساءاتٍ إعلامية مبتذلة نكراء؟
ولماذا أصبحت صرخة الغضب ضدّ صحف أوروبية، لا مرجعيّة دينيّة أو أخلاقيّة لها، منفذاً لطروحات طائفيّة، ومخاطر انعكاس ذلك على وحدة المجتمعات العربيّة والإسلاميّة؟
وإلى أين يذهب المسلمون بحال الانفعال والغضب العشوائي الذي يسيطر على أفعالهم معظم الأحيان؟ من وضعٍ مأساوي في داخل بلدان العالم الإسلامي حيث يحارب بعضٌ من المسلمين بعضهم الآخر، ممزوجٍ بتدخل خارجي، إلى انفعالاتٍ لا تميّز بين عدوٍّ وصديق!.
الرئيس الأميركي ترامب اطلق في السنوات الماضية العديد من التصريحات المسيئة للإسلام والمسلمين، وهو وافق على تهويد القدس وتشجيع الإستيطان ولم نجد ردة الفعل الإسلامية والعربية ضد أميركا وإسرائيل كالتي نراها الآن ضد فرنسا!. فحبذا لو أنّ الحراك الحاصل الآن ضد فرنسا في دول إسلامية يحصل أولاً ضد التطبيع مع إسرائيل والتشجيع الأميركي له.
فأليس محزناً أنّ التطبيع مع إسرائيل التي ضمّت القدس وتُهوّدها يزداد في العالمين الإسلامي والعربي، وبأن نرى العلم الإسرائيلي يرتفع في عدة عواصم عربيّة وإسلاميّة بدعمٍ وتشجيع من إدارة ترامب، ولا يشهد العالم ردود الفعل الإسلامية المناسبة ضد ما يحصل في قدسهم الشريف والمسجد الأقصى فيه؟!.
بل لماذا التفاوض مع عدوّ العرب والمسلمين هو السبيل الوحيد ل”تحرير” القدس والأراضي المحتلة!! بينما أصبح مشاعاً استخدام العنف المسلح بين العرب والمسلمين أنفسهم؟! فالحلول “السلمية” هي الحلّ المنشود مع العدوّ بينما الحلول “العسكرية” هي وسيلة التغيير في المجتمعات العربية والإسلامية؟!
لقد رفض الأوروبيّون الموافقة على “صفقة ترامب” الإسرائيلية، وهم يطالبون واشنطن بإجراء تسوية عادلة للصراع العربي الإسرائيلي وتحديداً للمسألة الفلسطينيّة، وبادرت عدة مؤسسات برلمانية أوروبية للاعتراف بدولة فلسطين… فأين هي المصلحة العربيّة والإسلاميّة من توسيع ساحة الخصوم، وفي استعداء الأوروبيين عموماً، وفي تحميل شعوب ودول في الاتحاد الأوروبي مسؤولية أعمالٍ قذرة قامت بها صحف أوروبية مجهولة وتبنّناها أشخاص محدودون؟!.
ولماذا يتكرّر خطأ ردود الأفعال الذي حدث عام 1989 بعد صدور الكتاب التافه ” أشعار شيطانيّة” لسلمان رشدي، حيث أعطت ردود الأفعال آنذاك دعاية كبيرة لكتاب سخيف رديء وجعلت من مؤلّفه البذيء المجهول بطلاً لحريّة الكلمة في أوروبا والغرب عموماً؟
هل هناك من مصلحة إسلاميّة في الترويج والدعاية لهذه الإساءات؟! وهل يجوز الردّ على هذه الإساءات بالقتل والعنف؟ أليس من الأفضل حصر التعامل مع هذه الظواهر المسيئة في أماكنها ومن خلال توظيف قوانين حرّية الرأي والكلمة، وبواسطة أبناء البلد أنفسهم من عرب ومسلمين وأصدقاء محلّيين؟!
ولماذا هذا التناقض المفتعل بين الإسلام وحريّة الكلمة والمعتقد؟ ألم يعاصر النبي الكريم (عليه الصلاة والسلام) من اتّهموه بالكذب والجنون!
القرآن الكريم يردّد لنا في أكثر من سورة ما افترى به الكفّار على الأنبياء عموماً من صفات وادّعاءات:
(وعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذّاب) (سورة ص- الآية 4).
( إنّهم كانوا إذا قيل لهم لا إلهَ إلا اللهُ يستكبرون. ويقولون أئنّا لتاركوا آلهتنا لشاعرٍ مجنون) (سورة الصافات- الآيتان 35 و36 ).
فكيف كانت سيرة الرسول الأعظم مع من ناقضه بل وافترى عليه بسوء الأوصاف؟ هل كانت بالقتل والعنف؟! ثمَّ ألا نتّعظ بالمنهج القرآني الّذي يستخدم المنطق – لا الدعوة للعنف – في الرّد على كل الافتراءات بحقّ الله سبحانه وتعالى وبحقّ الأنبياء والمرسلين؟
إنَّ القليل من الفعل السليم خيرٌ من انفعال كبير. وهذا ما تحتاجه الآن شعوب البلاد العربيّة والإسلاميّة في تعاملها ليس فقط مع ظاهرة الإساءات الإعلاميّة المغرضة في الغرب، بل أيضاً مع مشاكلها وأوضاعها الداخليّة المهدّدة بالفرز والتفكّك والانشطار الطائفي والمذهبي.
وإذا كان العرب والمسلمون لا يجدون فعلاً مصلحة في المقولة الأميركيّة/الإسرائيليّة التي ظهرت في مطلع التسعينات من القرن الماضي عن “صراع الحضارات” و”الخطر الإرهابي القادم من الشرق الإسلامي”، فإنَّ أبسط الأمور الآن هي عدم الوقوع في الكمائن المنصوبة لهم على أكثر من ساحة!.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2020/10/28