الإرهاب والإسلاموفوبيا وجهان لعملة واحدة
د. سعيد الشهابي
بعد عام من تصدي العالم لأكبر محنة يواجهها منذ الحرب العالمية الثانية، كان المتوقع ان تفرض غريزة حب الحياة نفسها على سكان هذا الكوكب، فيركزون جهودهم لمواجهة الوباء والابتعاد عن الثرثرة واللغو اللذين لا يجديان شيئا في هذه الأوقات العصيبة.
لم يكن أحد يتوقع أن يتوجه ذو عقل لإثارة قضايا تقلل من شأن العمل الدولي المشترك والتقارب النفسي الذي فرضته الجائحة. فالوباء يستشري بسرعة فائقة، وها هو يغزو البشرية في موجة إصابات ثانية يتوقع الكثيرون أن تكون أشد فتكا من الاولى. فكيف يستطيع إنسان أن يفكر خارج الأطر الغريزية خصوصا ما يتعلق بالموت والحياة؟ الوقت ليس مناسبا لاستهداف الآخرين في عقائدهم أو أفكارهم او مقدساتهم. كما انه ليس وقت الإرهاب والتطرف المؤسس على صور مشوهة للدين الذي جاء به محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام. وفيما يحتفي المسلمون بذكرى مولده الميمون هذه الايام، كان الأجدر استحضار القيم السماوية التي روجها الإسلام من خلال الرسول الكريم والقرآن العظيم. فالتعايش الإنساني المؤسس على الاحترام المتبادل من أسمى ما طرحه الإسلام، وكذلك الأديان السماوية الأخرى التي سبقته. أما الخلاف فمصدره الإنسان الذي يقصر فهمه عن استيعاب معنى استخلاف الإنسان على الأرض من قبل الله سبحانه وتعالى. الأمر المؤكد أن الغالبية الساحقة من المسلمين تستنكر الافعال الاجرامية التي استهدفت مواطنين فرنسيين وقام بها أفراد ضلوا الطريق وحادوا عن الجادة. فاذا كان هؤلاء قد استخدموا الدين وسيلة لتبرير جرائمهم، فما أكثر الجرائم التي ترتكب يوميا من قبل افراد من غير المسلمين وتؤدي لقتل أطفال في المدارس او مواطنين في الاسواق او متعبدين في المساجد والكنائس. فالإجرام لا يمكن تبريره أيا كان القائمون به.
في 25 شباط/ فبراير 1994 أطلق طبيب يهودي النار على المصلين اثناء أدائهم الفجر في منتصف شهر رمضان وقتل 29 مصليا وجرح 150 آخرين في المسجد الابراهيمي بمدينة الخليل الفلسطينية. فهل يمكن اتهام الدين اليهودي بتلك الجريمة؟ وهل يستطيع أحد أن يدعي ان سيدنا موسى عليه السلام امر ذلك الإرهابي بقتل أتباع محمد؟ وفي يوم الجمعة 15 آذار- مارس 2019 قام متطرف مسيحي بإطلاق النار على مسجد النور ومركز لينود الإسلامي بمدينة كرايستشيرتش في نيوزيلاندا وقتل 51 من المصلين واصاب 50 آخرين. فهل يمكن اتهام الدين المسيحي بتلك الجريمة، ام هل يمكن القول إن السيد المسيح عليه الصلام امر ذلك المجرم بقتل المسلمين؟ وفي الشهر التالي (ابريل 2019) استهدفت مجموعة متطرفة من المسلمين ثلاث كنائس وأربعة فنادق في سريلانكا وقتل اكثر من 350 شخصا من مرتاديها. وهنا تصاعدت الاصوات التي تتهم الدين الإسلامي بالمسؤولية.
ما دلالات هذه الحقائق: اولا: ان من غير الانصاف الاستمرار باستخدام معايير مختلفة في حالات متشابهة، فهذا لا يخدم العدالة أو الحقيقة ولا يساهم في التصدي لمسألة العنف والتطرف والإرهاب واستيعاب اسبابها الحقيقية. ثانيا: إن من الخطأ الكبير اتهام الأديان السماوية بأنها مصدر العنف او المحرض عليه.
فالرسالات السماوية التي جاء بها الأنبياء واحدة في جوهرها فهي تدعو لتوحيد الله والتسليم له، ولذلك يؤكد القرآن الكريم وحدتها بقوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام، والإسلام هنا ليس الدين الذي جاء به محمد بن عبد الله فحسب، بل ان الاديان جميعا جاءت بالرسالة نفسها التي جاء الإسلام بها. والإسلام يعترف بالأديان السماوية الاخرى، ويعتبر أتباع اليهودية والمسيحية «اهل الكتاب» كما يعتبر موسى وعيسى أنبياء مقدسين مبعوثين من الله للبشر. ثالثا: ان الاستمرار في «شيطنة» الإسلام وإلصاقه بمن يرتكب العنف والإرهاب والتطرف خلافا لما يدعو له من استخدام العقل والوسطية والعدالة، لا يخدم الحقيقة او الانسانية في شيء، بل يعمق خلافاتها ويفرض عليها حالة استقطاب سلبية تؤدي للتوتر والخلاف والحرب. رابعا: ان تسييس الدين ظاهرة خطيرة، اذ أصبح يستخدم لتبرير الممارسات التي تتناقض مع جوهره. فالإرهابي يستخدم الدين لتبرير العنف ضد الآخرين، والسياسي يستبطن استعداء الدين ويوجه سياساته على ذلك الاساس. خامسا: ان رموز الاديان بشكل عام من اكثر الاطراف حرصا على تفادي التصادم بين اتباعهم، والسعي للعمل المشترك وتنسيق الدعوة الدينية خصوصا مع تصاعد ظاهرتي الإرهاب والالحاد. وتقتضي المصلحة دعم الحوار بين الاديان والمذاهب كسياسة ثابتة على طريق إحلال السلام والتعايش والحب خصوصا في المجتمعات المتعددة الثقافات.
يمكن القول إن السياسيين من أكثر الأطراف استهدافا للدين. فهم يستخدمونه لدعم مواقفهم وتبرير سياساتهم. فاذا تصالحوا مع السياسيين الآخرين المختلفين دينيا روجوا التقارب الديني بين الطرفين، وإذا اختلفوا استخدموا لغة سلبية تجاه الدين.
إن ما قام به بضعة اشخاص متطرفين مؤخرا في فرنسا ستكون له تبعات خطيرة على الجالية المسلمة ليس في ذلك البلد فحسب، بل في الدول الغربية عموما. فهناك موجة عارمة ضد المهاجرين الذين يفرون من بلدانهم مخاطرين بحياتهم من اجل الوصول الى الغرب، ويبحث السياسيون عن أساليب لوقف تلك الهجرة التي ساهمت في صعود اليمين المتطرف في العديد من الدول الغربية. وتوفر الأعمال الإرهابية التي تستهدف مواطنين غربيين وقودا للتطرف اليميني الذي أصبحت دعواته ترعب الجاليات المسلمة في الغرب. وبرغم تصاعد الأصوات الإسلامية المنددة بحوادث القتل الاخيرة (قتل مدرس في باريس وثلاثة من المصلين بالقرب من كنيسة نوتردام بمدينة نيس) إلا أن اصوات التطرف اليميني تسعى لتصعيد استهداف الوجودات الإسلامية في فرنسا. وساهمت حملة المداهمات الأخيرة التي قامت بها السلطات الفرنسية ضد الافراد والمؤسسات الإسلامية لتعمق مشاعر الخوف بين المسلمين، حتى اضطر رئيس مؤسسة «مدينة البركة» للفرار بجلده الى تركيا بعد أن اغلقت السلطات مؤسسته.
ردود الفعل العربية والإسلامية تكشف عمق المشاعر الشعبية والقلق الذي يتضاعف في ظل تصاعد انتشار الوباء بمعدلات غير مسبوقة. وبرغم فداحة الجرائم الاخيرة التي قتل فيها مواطنون فرنسيون إلا أن تصريحات الرئيس ماكرون لم تكن مساهمة ايجابية للبشرية في حقبة تحتاج فيها للتركيز على خطر يهدد وجود الملايين من ابنائها. ورأى البعض فيها محاولة لصرف الانظار عن فشل حكومته في التصدي للجائحة وتصاعد الاصابات في فرنسا بمعدلات كبرى. كما اعتبر التشبث بمقولة «حرية التعبير» للدفاع عن مجلة «تشارلي إيبدو» التي كررت نشرها رسومات كارتونية تسيء للنبي محمد بن عبد الله، هروبا الى الامام، وليس انتصارا لحرية التعبير. فهذه الحرية، كما هو متفق عليه، مشروطة بعدم التأثير على الأمن الاجتماعي، فالحريات العامة مكفولة ولكنها مشروطة بعدم اختراق حدود الآخرين وحقوقهم. ومن الضرورة بمكان أن تحفظ الدولة الحديثة الحريات العامة للمواطنين، ضمن ما يحفظ الامن والسلم الاجتماعيين والدوليين. فالتعبير الذي يحرض على العنف ممنوع لأنه يهدد ذلك، والتعبير الذي يشجع على القتل مثلا او السرقة او الاغتصاب، كل ذلك غير مسموح به في اية دولة. كما أن حرية التعبير مشروطة بعدم النيل من الآخرين او شتمهم، لأن ذلك يؤثر على السلم الاجتماعي والأهلي.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/11/02