النشاط المدرسي والإنفاق الحكومي
محمد السعيدي ..
في ثمانينات القرن الهجري الماضي وتسعيناته حتى أوائل القرن الحالي كانت مدارس التعليم العام بجميع مراحله تعج بما كان يسمى جمعيات النشاط الطلابي، فالطالب من حين التحاقه بالتعليم الابتدائي يجد أمامه أصنافا من النشاط غير الصفي يلبي كل احتياجاته ويكفل الكشف عن مختلف مهاراته، فجمعية للتوعية الإسلامية وللنظام وللخط وللرسم وللتربية الفنية وللمسرح والمكتبة والرياضة والإذاعة والصحافة والعلوم والأشبال والكشافة.
وكانت كل مدرسة آنذاك تقيم عددا من الاحتفالات والمعارض والمهرجانات الرياضية تبرز فيها الإنتاج المرحلي ثم النهائي للطلاب في كل تلك الأنشطة، وكان سكان الأحياء يتفاعلون مع تلك المناشط، حيث كنا نجد الازدحام الكبير على أبواب المدارس في ليالي تلك الاحتفالات، حتى إن بعض المدارس المتميزة باحتفالاتها ومناشطها كانت تستعين بالشرطة لتنظيم الناس.
وكان مقررا لكل مدرسة ما لا يقل عن أربع رحلات طلابية تجرى في إجازات نهاية الأسبوع بصحبة المدرسين تقام خلالها أنشطة تربوية وتثقيفية، وكانت المدارس تختلف في طرق انتخابها الطلاب المشاركين في هذه الرحلات.
هذا إضافة إلى المراكز الصيفية الكثيرة التي كانت وزارة المعارف في مدارسها العامة وجامعة الإمام محمد بن سعود في معاهدها العلمية تبذلان الكثير من الأموال لإمداد هذه المراكز بكل ما تحتاجه من الأموال كي تكون تلك المراكز جاذبة للطلاب، ومحققة أهدافها التربوية والتثقيفية، بل الاجتماعية والأمنية.
هذه مرحلة مررت بها ومر بها من هم في سني أو أكبر مني ومن هم أصغر قليلا، وما زلت أتذكر ما كان في هذه المناشط من العيوب وأوجه القصور، منها ضعف الإشراف الوزاري على تلك المناشط، واكتفاء الوزارة وإدارات التعليم بتكليف مديري المدارس وصرف المخصصات المالية لهم، على عكس جامعة الإمام التي كانت تتابع تلك الأنشطة بدقة وتجتهد في توجيهها إلى حد كبير، بل إن مدير الجامعة نفسه كانت له جولات على المعاهد في مختلف مناطق المملكة يقف من خلالها على ما يجري، ولم يكن هذا الأمر حاصلا في وزارة المعارف ولو على مستوى مديري التعليم في كل مدينة.
ومن هذه العيوب أيضا: ضعفٰ وعي مديري المدارس والمدرسين بالأهداف المباشرة وبعيدة المدى لهذه المناشط، الأمر الذي جعل الكثيرين منهم ينظرون إليها كأعباء وظيفية وليست واجبات دينية ووطنية ومهام تربوية مشرفة، ومن هؤلاء من كان ينظر إلى بعض هذه المناشط كفرص للتسلية وإمضاء الوقت.
كل هذه العيوب أوجدت عزوفا لدى كثير من الآباء عن إشراك أبنائهم في هذه الأنشطة، كما أنها أوجدت قصورا كبيرا في مخرجات هذه المناشط عن المأمول فيها وعن أهدافها، كما سجل القليل جدا من الملاحظات الأخلاقية على بعض تجمعاتها، ثم تم ظلما إلصاق التوجهات الفكرية المنحرفة ببعضها، وأقول ظلما وأنا جازم بذلك لأمرين: الأول: أن هذا الإلصاق لم يكن نتيجة بحث علمي أو تحقيقات أمنية، الآخر: أن الانحرافات الفكرية بأنواعها استمرت بعد انحسار تلك المناشط، بل بعد إيقافها لدى عينات من الشباب لم يدركوا تلك المناشط ولم يشاركوا فيها.
المهم أن تلك العيوب الحقيقية والملصقة لم تؤد إلى إعادة دراسة هذه المناشط وأنظمتها من جديد، وتغيير ما لوحظ فيها من عيوب وتلمس نقاط ضعفها وتصحيحها، والنظر إلى مواطن قوتها لدعمها، كل ذلك لم يكن، بل بادرنا مباشرة إلى التخلص منها عن طريق التضييق عليها شيئا فشيئا حتى انتهى أمرها.
سياسة التخلص سياسة شجاعة ونافعة، لكن حينما تكون من أمر تحققت المضرة منه بطرق بحثية علمية وأخرى تجريبية متواترة، أما التخلص من مشروع تربوي رائد كمشروع النشاط اللاصفي، فيجمع التربويون في كل أنحاء العالم والتجارب العالمية والدعاة وأهل العلم على جدواه، بل على ضرورته، فليس ذلك شجاعة أبدا، ولا أريد أن أطلق عليه الوصف المضاد للشجاعة، لكن أكتفي بالقول إنه خطأ في تقدير الموقف.
قد يَرُد أحدهم بأن جمعيات النشاط ما زالت قائمة ويمكن الاستدلال عليها من خلال لوحاتها الموجودة على الفصول، أو الصحف الحائطية والرسومات على الحوائط الداخلية والخارجية.
والحقيقة أن الجميع يعرف أن كل ذلك لا يعبر عن نشاط حقيقي للطلاب بقدر ما يعبر عن نشاط صوري لمدير المدرسة أو بعض المدرسين العاملين معه، ويستفيد منه بعض النابهين من الطلاب، أما النشاط الطلابي فوضعه الآن مأساوي ولا يعبر عما يجب أن يكون عليه التعليم في دولة رائدة مثل المملكة العربية السعودية.
إن إعادة النشاط غير الصفي في مدارسنا في جميع مراحل التعليم ضرورة ملحة يفرضها واجب التعليم، وتحتمها الأوضاع الحاضرة في بلادنا وفيما يحيط بها، كما أن تنظيمها على وجه يحفظها مما وقع فيها أو وقعت فيه من أخطاء في أزمانها السالفة واجب لا مفر منه إن أردنا منها أغصانا لدنة وثمارا يانعة.
النشاط المدرسي ضرورة لأن فيه حلا مستقبليا ناجعا لكثير من مشكلات بلادنا الحاضرة والمتوقعة، فهو رافد مهم ولا غنى عنه للحلول المطروحة للبطالة والانحراف الفكري والأخلاقي، وهو أساس في مواجهة مشكلة تطوير الذات لدى شبابنا وقلة المبدعين، كما أنه له الأهمية القصوى في برامج مكافحة الجريمة والمخدرات، ومعالجة الضعف العلمي لدى الطلاب والتسرب الدراسي.
نعم: إن النشاط المدرسي حل رديف أشبه ما يكون بالسحري لكل تلك المشكلات، بل ولغيرها، مما يجعل العودة إليه بكل ما أوتيت وزارة التعليم من قوة أمرا واجبا وجوبا فوريا لا يحتمل التأجيل.
ولقد صاحبت انحسار هذه الأنشطة فيما مضى مشكلات مالية ألمت بالدولة نتيجة حربين كبيرتين خاضتهما، وأرجو ألا يعتذر بالأزمة الحالية لتأخير إعادة هذا المشروع العظيم، فإن تقليص الإنفاق الحكومي لا بأس أن يطال كل شيء، لكن البأس كل البأس أن يطال التعليم ونعود إلى تكرار الخطأ الذي وقعنا فيه بالأمس.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/04/18