دلالات خطاب بايدن في الكونغرس: قراءة أوّلية
زياد حافظ
في أول خطاب القاه أمام الكونغرس كرئيس للولايات المتحدة في 28 نيسان/ابريل 2021عرض فيها التوجّهات الرئيسية لولايته على الصعيد الداخلي والخارجي. الاعلام الشركاتي المهيمن رحّب بالخطاب ومن المبالغات التي رُوّجت أن بايدن يُقارن بروزفلت الذي أوجد نظام الضمان الاجتماعي وليندون جونسون الذي أوجد نظام الضمان الصحي والاستشفاء (Medicare and Medicaid) للطبقات الفقيرة. لكن بعيدا عن كل التقديرات الحزبية المؤّيّدة أو المعارضة لخطاب الرئيس فهناك ملاحظات عدة يمكن استخلاصها في قراءة أوّلية بعيدة عن التقييمات الحزبية المؤيّدة أو المعارضة لها داخليا ودوليا.
الملاحظة الأولى هو أن الخطاب كان موجّها للداخل الأميركي حيث عرض سلسلة مشاريع لإعادة تأهيل البنى التحتية المترهّلة والاستثمار في التكنولوجيات الحديثة والنظيفة. في هذا السياق هناك رأيان: الرأي الأول يرحّب بكل هذه المشاريع، والرأي الثاني يشكّك في إمكانية تحقيق تلك المشاريع. ولعلّ القعبة الأساسية أمام تنفيذ تلك المشاريع هي عقبة التمويل وكلفته.
الملاحظة الثانية هي عرضه لتمويل تلك المشاريع عبر فرض ضرائب مرتفعة على كل دخل للفرد يتجاوز 400 ألف دولار سنويا، وخاصة للشركات. ذكر مرّات عديدة نسبة الواحد بالمائة من الأميركيين الذين يملكون معظم الثروة فطالبهم بدفع حصّتهم. وتأكيدا لطرحه ذكر أن العام الماضي حوالي 55 شركة أميركية لم تدفع سنتا من الضرائب وإن أعلنت أرباحا تفوق الخمسين مليار دولار وذلك بسبب ثغرات في قانون الضرائب واللجوء إلى توطين الأرباح في مراكز مالية خارجية محمية. ومن هنا بشّر الأميركيين أن الضرائب سترفع على فئات واسعة ولكنّها لن تزيد على من دخله أقل من 400 ألف دولار. أراد الرئيس أن يكون محاميا لما يعتبره الطبقة الوسطى.
الملاحظة الثالثة هي أنه لم يتطرّق لا من بعيد ولا من قريب حول تأهيل القوّات المسلّحة وهذه من النوادر في خطابات الرئاسة عبر التاريخ والإدارات المتتالية. هناك لازمة عند خطابات الرؤساء بتخصيص فقرات لإنجازات القوّات المسلحة وضرورة تمكنيها لحماية البلاد. لكن في ذلك الخطاب لم يقارب مسألة تأهيل القوّات المسلّحة.
الملاحظة الرابعة، وربما هي الأهم في رأينا هي أن الخطاب كان حزبيا بامتياز ولم يكن هادفا إلى إعادة اللحمة بين الأميركيين المنقسمين انقساما حادا كما بيّنته الانتخابات الماضية. وهنا يُطرح السؤال كيف بإمكانه تنفيذ البرنامج الطموح في حالة انقسام؟ وسؤال آخر يطرح هل عدم اقدامه على ردم الانقسام سياسة متعمّدة؟ هناك دلائل كثيرة لمن يراقب الحيثيات اليومية أن الحزب الديمقراطي يريد ذلك.
الملاحظة الخامسة الناتجة عن الملاحظة السابقة أن تكريس الانقسام قد يؤدّي إلى تغيير في طبيعة السكّانية للولايات المتحدة عبر فتح أبواب الهجرة غير الشرعية ما سيؤدّي إلى استبدال الناخبين الجدد من المهاجرين غير الشرعيين بعد “تثبيت” أوضاعهم بالناخبين التقليديين. تفيد الإحصاءات المتداولة أن حوالي 11 مليون مهاجر غير شرعي موجود في الولايات المتحدة وبالتالي يمكن تحويلهم إلى ناخبين جدد.
الملاحظة السادسة هي أن الخطاب كرّس اهتمام الرئيس بالشأن الداخلي وأن في الشأن الخارجي لا تتجاوز طموحاته أكثر من تثبيت مكانة الولايات المتحدة. فهاجسه الواضح طيلة خطابه هو التنافس مع الآخرين في كافة الميادين وليس قيادتهم! كرّر مرّات عديدة مقولة أن “الولايات المتحدة عادت” لكن دون تحديد ما هو المقصود. لكن ما لفت نظرنا هو إضافته “لمتى؟” مع يعني أن تلك “المكانة” مزعزعة. كما كان غائبا الكلام عن المحادثات الجارين بين الولايات المتحدة المجموعة 5+1 بشأن الملف النووي. كان ملفتا للنظر السكوت عن الموضوع. تكلّم عن إعادة الثقة مع الحلفاء الأوروبيين دون أن يتطرّق إلى الحلفاء الدوليين الآخرين خاصة في الإقليم. فالكيان الصهيوني كان غائبا في الخطاب وكذلك حلفاء أميركا في المنطقة العربية. وكيف يريد أن يتكلّم عن “حقوق الانسان” في الدول التي تخاصمه ويسكت عن تلك الدول التي تتحالف معه؟
في هذا السياق شدّد الرئيس الأميركي أن النموذج “الأوتوقراطي” كما قال ليس أفضل من النموذج الديمقراطي. أقرّ أن هناك في العالم من يعتقد أن النموذج “الأوتوقراطي” يستطيع تحقيق التنمية والنهوض مشيرا بشكل عير مباشر إلى تجربة روسيا والصين. والرئيس الأميركي يعتبر أن الرد على ذلك هو بالديمقراطية وبالنهوض وأن النهوض هو عبر الاستثمار. هذه القراءة تبسيطية للغاية. لكن نسجّل أن الرئيس الأميركي أقرّ بأن النموذج “الاخر” انجز التقدّم بل حتى التفوٌّق في ميادين عدّة ما يطرح ضرورة التفكير لماذا أخفق النموذج الديمقراطي. وهنا ربما الثغرة الفكرية الأساسية في مقاربته حيث لم يقدّم تحليلا أو رؤية لحال التراجع الأميركي.
فكيف يمكن النهوض إذا لم تكن تلك المقاربة موجودة؟ وهل الاكتفاء برمي المليارات بل التريليونات على المشاريع كاف، هذا إذا ما تمّ ذلك الاستثمار؟
الملاحظة السابعة هي الشأن الخارجي حيث مرّ مرور الكرام على التناقض الجوهري بين الولايات المتحدة والصين من جهة. بالنسبة للصين فلم يقاربها بشكل مباشر إلا عبر ذكر سرق المعلومات والتكنولوجيا وعدم احترام الملكية الفكرية وأن التنافس معها هو قائم. اما بالنسبة لروسيا قال عن “بوتين” (دون أي يعطيه لقب “الرئيس”) أن الولايات المتحدة لا تريد التصعيد ولكن لن تسكت عن التجاوزات دون أن يحدّد ما هي. وأكّد حرصه على التعاون في ملفّات تلتقي مصالح البلدين.
الملاحظة الثامنة، وربما هي الأكثر وضوحا في توجّهات الرئيس الأميركي هو إصراره على الانسحاب من أفغانستان. ما لفت النظر هو لغة الجسد لرئيس هيئة الأركان للقوى المسلّحة المشتركة مارك ميلى الذي كان مكمّما وبالتالي لم يعرف إذا ما كان مبتسما أو عابسا. لكنه لم يصفّق كما صفّق معظم الحاضرين عند اعلان بايدن بالانسحاب من أفغانستان. فهل هذا يعني عندم رضى المؤسسة العسكرية وهل ستقوم بعرقلة الانسحاب؟ وإذا نجحت فماذا يعني كل ذلك بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية؟ من يحدّدها ومن يلتزم بتنفيذها؟
الملاحظة التاسعة هي أداء الرئيس في تقديمه للخطاب. بات واضحا أنه يشكو من قلّة السيطرة على النطق. ففي عدّة أماكن من الخطاب تلعثم وأخطأ في النطق. وفي أماكن أخرى كان لفظه لفظ السكران. وبالمقابل كان واضحا وواثقا في أماكن أخرى من خطابه. لكن كل ذلك يدلّ على أن هناك مشكلة ما في صحّة الرئيس فيما يتعلٌّق بقدراته الفكرية وأن ذلك ينذر بتغييرات في السلطة قد لا تكون بعيدة في الزمن.
الملاحظة الأخيرة هي أن خطاب بايدن يؤكّد المأزق الداخلي الأميركي من حيث الانقسام، ومن حيث تردّي القدرة على التنافس، ومن حيث الإقرار بأن النموذج الأميركي في حال ترهلّ كما هو حال البنى التحتية في الولايات المتحدة. ورغم طموح البرنامج الاستثماري ليبّث الحيوية في المشهد الأميركي إلاّ أن تخلّفه عن التكّلم عن المشاكل الداخلية وحالة الانقسام وأسبابها منها النموذج النيوليبرالي التوسّعي، فلا يمكن البناء على التفاؤل المفتعل الذي أراد الرئيس الأميركي توجيهه للشعب الأميركي. شعورنا ونخن نشاهده على المنبر أننا في مرحلة انتقالية قد تطول أو تقصر ولكن ليس لواقع أميركي افضل لا على الصعيد الداخلي وبطبيعة الحال لا على الصعيد الخارجي.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2021/05/02