هل تلدغ غزّة من الجحر مرّتين؟
سعادة أرشيد
عانت وتعاني غزّة من حصار منذ عام 2007، لكنها استطاعت في السنين الأولى أن تتعامل مع واقعها، وذلك عبر الأنفاق التي انتشرت ومثلت اقتصاداً غير مسبوق في آلياته. استطاعت الأنفاق توريد البضائع على أنواعها وأشكالها وأحجامها للبلد المحاصر، الأمر الذي جعل الحياة في غزّة معقولة إلى حدّ ما. بل ربما استطاعت تخفيض أسعار بعض السلع الأساسية بسبب تهريبها من المناطق المصرية المتاخمة لغزة، إذ تنخفض كثيراً عن أسعار ذات السلع المستوردة من دولة الاحتلال. وفي الوقت عينه أنعشت اقتصاد المناطق المصرية المهملة من عاصمتها القاهرة. لكن الرئيس المصري الحالي، سارع فور وصوله إلى الحكم، إلى إغلاق الأنفاق تفجيراً وإغراقاً بمياه البحر والمياه العادمة، ودمر البيئة المحيطة بها، فراح حصار غزّة يأخذ مساراً متوحشاً، متحولاً إلى مأساة إنسانية وأخلاقية، لا أزمة سياسية فحسب.
استطاعت غزّة البقاء، لكن بصعوبة. بات يستحيل على الطلاب الذهاب إلى جامعاتهم، وعلى التجار إنجاز أعمالهم، وعلى المرضى أن يتعالجوا في الخارج... وعانت العائلات الموزعة بين غزّة وجهات العالم الأربع من صعوبة التواصل. استطاعت غزّة البقاء، رغم قسوة الحصار الذي تضافرت أسباب وعوامل عدة على تشديد قبضته. من انتكاس حركة الإخوان في مصر والتحريض على غزّة كـ «إمارة إسلامية»، إلى «شروط الرباعية» التي لا تستطيع حركة حماس التماهي معها. هكذا وجدت نفسها مضطرة إلى خوض الحروب. الحرب السابقة في عام 2014، دامت المواجهة خمسين يوماً، وانهالت على غزّة الصواريخ. كما قصفت بأسلحة فتاكة منها الفسفورية، وتلك التي تحمل اليورانيوم المنضب. كل ذلك خلف دماراً وقتلاً مرعباً، يصل إلى حد الإبادة الجماعية.
يروي الراحل محمد حسنين هيكل، أنه كان كلما تحدث مع الزعيم الفرنسي ديغول، كان ديغول لا يبدأ الحديث إلا بوضع الخرائط على الجدار، إدراكاً منه لارتباط الجغرافيا بالسياسة. وهذا الأمر ينطبق بامتياز على غزّة، فثقل الجغرافيا جعل لمصر دوراً حاسماً بحكم موقعها، كما تلعب قطر دوراً بحكم استضافتها لقيادة حماس. كل ذلك ساهم في تحديد نتائج الأحداث. كلتا الدولتين قدمتا تعهدات لغزة، الأولى بإنهاء الحصار وفتح معبر رفح، والثانية بإعادة إعمار ما دمرته الحرب. لكن الأمور انتهت من دون أن تَفيا بتعهداتهما. كانت مصر تفتح المعبر لفترة قصيرة ثم تغلقه، مرة بعد مرة، وقطر اكتفت بتقديم أقل القليل لإعادة الإعمار، وهو ما تحول لاحقاً إلى حقيبة يدخلها السفير عبر مطار اللد («بن غوريون») وبموافقة الحكومة «الإسرائيلية».
آثار الحرب الماضية لم تزَل حاضرة بقوة في غزّة، وكلمة السر تبقى رفع الحصار. وقد تضافرت أحداث المسجد الأقصى وباب العامود، وحي الشيخ جراح... لتشعل فتيل الحرب. ولعل خيبة حماس من تأجيل الانتخابات التي علّقت آمالاً كبيرة، عززت منطق المواجهة التي استغرقت عشرة أيام تميّزت بالضراوة، وعزّزت موقع القوى المقاومة بدعم من محور الممانعة... وتوحّد الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة. وعاد الاهتمام بالمسألة الفلسطينية التي استردّت موقع الصدارة، وحجّمت كل المبادرات التطبيعية مع العدو. وفي الوقت نفسه، أدت الحرب الأخيرة التي توّجت بنصر سلط الضوء على تصدّع العدو، إلى تراجع حاد في مكانة القوى السياسية الفلسطينية التقليدية المتآكلة أصلاً، أي فصائل منظمة التحرير التي تحاول اللحاق بالحدث عبر إصدار البيانات. أما تظاهرات الضفة الغربية فلم تسمح لها السلطة بأخذ حجمها الطبيعي، لكن ذلك لم يمنع قيام السلطة باستغلالها. هذه السلطة التي أوحى وزير إعلامها على فضائية لبنانيّة، بأن السلطة راضية ألا يتجاوز دورها دور أي نظام عربي.
أما مصر، وللأسف، فهي ليست اليوم مصر التي نعرف. مصر ذات الدور الإقليمي والدولي، التي تملك حساسية استثنائية تجاه مسائل الأمن القومي. مصر اليوم فشلت في السودان، وفي التعامل مع سد النهضة وإثيوبيا، وقلّمت أظافرها في ليبيا، وتنازلت عن مياه إقليمية في المتوسط لليونان... مصر درجت منذ الأزل على اعتبار فلسطين مسألة تخصّ الأمن القومي المصري الأولى، ولطالما كنت فلسطين في قلب الوجدان المصري والسياسات الاستراتيجية المصرية، باسم المشتركات القومية. لكن مصر عبد الفتاح السيسي خذلت غزّة ومقاومتها، ولم تكن حريصة على الأمانة. وربّما بات اليوم ملحّاً على المقاومة إخراج الورقة الغزية من اللعبة، أو رفض التعاطي معها باعتبارها ورقة من أوراق اللعب لهذا النظام أو ذاك على الساحة الإقليمية.
على الغزيين أن يتعاملوا مباشرة مع مسألتهم بأنفسهم، كما فعل المقدسيون، من دون وصاية أو ولاية لأحد. عليهم البحث عن طرق ووسائل موازية للطريق المصري (المعبر)، والحقيبة القطرية، لرفع الحصار وإعادة الأعمار. بادرت مصر، قبل أن يطلب العدو وقف المواجهات، إلى الإعلان عن دعم قدره نصف مليار دولار لإعادة إعمار غزة.
وفي الحقيقة فإن شعب مصر قد يكونون الأولى بهذا المبلغ الذي يعين على مكافحة وباء كورونا، وإعادة تأهيل خطوط القطارات المتهالكة... فيما لا تريد غزّة من مصر إلا أن ترفع الحصار عنها وتفتح معبر رفح.
لعل ضرورات الصمود والبقاء تدفع المقاومة في غزّة إلى التفكير من داخل صندوق الترتيبات الإقليمية والرعاية الدولية المعقولة والمقبولة والمتوافق عليها بحدها الأدنى. لكن، إذا كان المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، فإن أهل غزّة الذين دفعوا في الحرب الأخيرة أثماناً باهظة، وقدّموا تضحيات جسيمة، لا يجب أن يقبلوا بإعادة إنتاج الشروط والتوازنات والمساومات القديمة.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2021/05/27