الهوية نتاج تاريخي
يوسف مكي ..
في هذه الحقبة التاريخية، حيث تسود مشاريع التفتيت وإعادة صياغة الجغرافيا، بأجندات غريبة، تبقى العروبة هوية جامعة، في مواجهة مشاريع القسمة بين الطوائف والأقليات الإثنية
بين فينة وأخرى، تشيع كتابات، تنعي مرحلة تاريخية، وتبشر ببروز أخرى. ومع هذا الشيوع، تبرز توصيفات للمتمسكين بإرث المرحلة السابقة، تارة بالعدمية والدوغمائية والذرائعية وأخرى بالتخشب، وتوصف الحقبة الجديدة بالواقعية، والبراجماتية، والتماهي مع روح العصر. ولا يستثنى النعي الهويات والثوابت الوطنية والقومية.
ولعلها سنن الكون، كلما جاءت أمة لعنت أختها. والتاريخ يعاد كتابته، عند كل مفترق جديد. وفي العادة تكتسب الكتابة الجديدة مفردات ولغة القوة الغالبة. كأن للتاريخ بداية ونهاية.
واقع الحال، أن كثيرا مما يجري نعيه هو نتاج التاريخ. والتاريخ علم، أهم قوانينه الحركة والتراكم. ومن غير ذلك لا يغدو لدينا شيء نسميه بالتاريخ. نهتم بدراسة التاريخ، ليس بصيغته الأولية، كتدوين للحوادث، وإنما بوصفه العلم الذي ندرس من خلاله قوانين حركة المجتمع وتطوره. ولأنه كذلك، فإن من الصعوبة، ربطه بلحظة تحول، مهما بلغت أهميتها. ذلك أن لحظة التحول لا تنشأ من فراغ، بل هي نتاج لسلسة ممتدة من الأحداث والتغيرات في الكون والمجتمع. بمعنى أنها لحظة تحول الفعل، من حالة التراكم إلى الحالة النوعية.
متابعة عصر اليقظة العربية، تشير إلى أنها خضعت لقانون الفعل والاستجابة، بحسب تعبير المؤرخ البريطاني، أرنولد توينبي. وما كان لحركة اليقظة، أن تجد مكانا مناسبا لها أفضل من بلاد الشام، حيث التنوع الثقافي والديني، في مواجهة الاستبداد وسياسة الإقصاء التي مارسها العثمانيون. وكانت لحظة بروز الهوية العربية، في إطارها المعاصر.
كان العرب المسلمون ضحية استبداد شوفيني عنصري، من قبل العثمانيين، بينما كان المسيحيون العرب ضحايا لنوعين من الاضطهاد: اضطهاد ديني واضطهاد قومي. وذلك ما يميز كفاح المشرق العربي عن مغربه، حيث يغيب التنوع الديني عن بلدان المغرب، وليس هناك من حضور ديني سوى الدين الإسلامي الحنيف.
وإذن فالهوية العربية من صنع التاريخ، وليست من صنع أفراد بعينهم. وحين طرحت القومية العربية في حينه، كانت استجابة لواقع تاريخي، ذلك لأن أي فعل سياسي بحاجة إلى حالة تعبوية، تنهض به وتضعه على الطريق الصحيحة.
ولذلك لم يكن عبئا أن يكتشف الأوروبيون حاجتهم لتأسيس دولهم الحديثة، على أسس قومية، حدودها جغرافيتها، هي حدود اللسان، واللغات الحديثة التي تفرعت عن اللغة اللاتينية الأصل. العرب أيضا اكتشفوا أن طريقهم للنهضة هو الكفاح من أجل تقرير المصير، والتبشير بقيام دولة عربية موحدة، على مقاس لسانهم، تماما كما فعل الأوروبيون من قبل.
الفارق بين الحالتين: الأوروبية والعربية، أن الأولى حديثة، ومحكومة بحركة الإصلاح الديني اللوثرية، وبما أطلق عليه ماكس فيبر الأخلاق البروتستانتية. أما في الحالة العربية، فإن تشكل الجغرافيا العربية تم بعقيدة الإسلام. فلم يكن للسان العربي أن يتمدد ويتوسع، ويشمل المنطقة الواقعة بين الخليج العربي، والمحيط الأطلسي، لولا الفتوحات الإسلامية. وليس جديدا القول، إن الحركة الشعوبية التي نشأت في أواخر العصر الأموي، وأوائل العصر العباسي، هي صراع بين الأعاجم والناطقين باللغة العربية. ويزخر الأدب العربي، شعرا ونثرا، بما يفصح عن طبيعة وماهية ذلك الصراع، رغم أن الرسول الأعظم قد قال بلسان عربي فصيح، أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
لقد بقيت الهوية العربية حصنا منيعا يصون التراث والثقافة العربية ويحميهما من التذرر والضياع. وكانت من عوامل صمود الأمة، أثناء السبات الطويل الذي أعقب استباحة هولاكو لبغداد، عاصمة العباسيين، إلى انبثاق عصر اليقظة وبروز عصر التنوير العربي.
فحين ضعفت دولة الخلافة، وتضعضعت أمام بروز الدويلات وتعدد الكيانات، بقيت فكرة أمة واحدة تربطها عقيدة، حلما يراود الكثيرين من العرب، واستمرت الهوية تحمل ثنائية ممزقة بين انتماء إلى كيان خاص، وانتماء معنوي آخر إلى أمة تضم شعوبا وقبائل ومع كل حالة ضعف عاشتها تلك الكيانات، كان الشعور بالانتماء إلى الأمة يطغى ويتعزز، لكن وحدة الأمة سياسيا بقيت بعيدة المنال، فقد كانت رهنا بقوة العرب وتصميمهم، ولم يكن في واقع حالهم قوة أو تصميم على تحقيق ذلك.
لقد برزت تجليات الثقافة العربية بشكل مثير للإعجاب، مع تداعي نظام الخلافة العربية، وهي حالة جديرة بالتأمل، إذ المألوف أن يكون هناك تواز في الصعود والتداعي بين خطي النهضة والسلطة. فعلى سبيل المثال، ارتبطت في بلاد الإغريق تجليات الثقافة اليونانية، وبروز فلاسفتها، بتوهج تلك الحضارة وقوة سلطانها. وحين تمزقت وحدتها برزت المذاهب الأبيقورية، والرواقية واللاأدرية التي نظرت لقبول الهزيمة والاستسلام، لكنها في ذات الوقت تمكنت من تحقيق التوازن النفسي لشعب مهزوم. هكذا حصل الانقطاع الثقافي في بلاد الإغريق، حيث خط الصعود البياني، متوازيا بين النهوض الفلسفي والسياسي، في تلك الحضارة.
أما بالوطن العربي، فإننا لا نلاحظ توازيا رأسيا بين خطي السلطة والنهضة، إذ في الوقت الذي تداعي فيه السلطان السياسي، وتمزقت الخلافة العربية الإسلامية، واتجه الخط البياني السياسي إلى الأسفل، ظل خط النهضة والفكر مستمرا في الصعود، مبرزا أسماء لامعة، في التاريخ العربي، كابن سيناء والرازي والفارابي وابن ماجة، وابن الهيثم والإدريسي وابن خلدون والغزالي وابن رشد، وهذا يعني أن انهيار الدولة العربية الواحدة، وبروز الممالك والإمارات على أنقاضها، لم يعبر عنه بانقطاع ثقافي عربي، وأن الثقافة العربية قد نمت بفعل مجموعة من التفاعلات الموضوعية، التي منحتها القدرة على الاستمرارية حتى في ظل ضعف السلطان السياسي.
والخلاصة، أن الهوية هي نتاج تاريخي، مبني على التراكم وليس فيها حالة انقطاع. إنها تتطور وتأخذ أشكالا جديدة، ضمن سياقات موضوعية، متماهية مع حقائق العصر، ولكنها لا تندثر. وفي هذه الحقبة التاريخية، حيث تسود مشاريع التفتيت وإعادة صياغة الجغرافيا، بأجندات غريبة، من خارج المكان، تبقى العروبة هوية جامعة، في مواجهة مشاريع القسمة بين الطوائف والأقليات الإثنية. ويبقى التمسك بها الدرع الحصين لتجاوز حالة التردي الراهنة.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/06/01