في السياسة والجغرافيا والتاريخ
يوسف مكي ..
إذا كانت الجغرافيا ذلك العلم الذي يهتم بدراسة شخصية الأقاليم، والرابط بين العلوم الطبيعية والاجتماعية فإنها أيضا تعد العنصر الحاسم في تكالب القوى الخارجية على المنطقة العربية
منذ فجر التاريخ، تداخلت العناصر السياسية وحقائق الجغرافيا في صناعة تاريخ هذه المنطقة، وكان لها الأثر البارز في الدور الذي لعبه العرب، في المشاركة الفعالة في بناء الحضارات الإنسانية. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه بسبب من الجغرافيا، شهد هذا الجزء من العالم بداية السؤال عن كنه الوجود، وفيه تمكن الإنسان من قهر الطبيعة في كثير من حلقاتها، كما شهد قيام أول سلطة مركزية في التاريخ، ويأتي تفرد المنطقة باستقبال رسالات السماء، وبناء الأهرام وحدائق بابل المعلقة، والتقدم في وسائل التحنيط، واكتشاف الحرف، والانفتاح على إبداعات الحضارات وإنجازاتها إشارات واضحة على أهمية المكان.
على أن أهمية الموقع الجغرافي للأمة، الذي جعلها موطنا أول للحضارات، ونقطة اتصال بين القارات الثلاث القديمة، ومعبرا لطريق الحرير، وحديثا طريقا لدرة التاج البريطاني، كانت ذاتها السبب في تكالب القوى الخارجية عليه، وفي بروز مشاكل اجتماعية وإثنية وسياسية فيه، كان من نتائجها عطل دوره الحضاري.
فمنذ سقوط بغداد، عاصمة العباسيين، عام 1258، تعطل الدور الفاعل للأمة العربية، وبقي العرب يغطون في نوم طويل تحت هيمنة التتار وسلطان الاستبداد العثماني. وفي بداية هذا الـقرن بدأ العرب يتململون ويقومون بمحاولات جادة من أجل التحرر والانعتاق، ولكن تلك المحاولات تعثرت ولا تزال، وكان الوطن في كل تلك المحاولات محملا بثقل جغرافيته…
تتعامل هذه القراءة مع السياسة باعتبارها فن إدارة المجتمعات، وتعرف الجغرافيا ليس بوصفها العلم الذي يدرس الاختلافات المناخية والتضاريسية فقط، ولكن بوصفها العلم الذي يهتم بدراسة شخصية الأقاليم، وكمجال رابط بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. أما مفهوم التاريخ فنناقشه ليس باعتباره سجلا لتدوين الحوادث وتقديم شروح وصفية لها فحسب، ولكن باعتباره صيرورة. ولذلك ينبغي التركيز على وعي مشاهد المسرح الذي تحققت وتطورت فيه الحادثة التاريخية ذاتية، أو وافدة، لما لذلك من أهمية في صنع وتوجيه حركة التاريخ العربي قديمه وحديـثه.
الجغرافيا كانت ولا تزال العنصر الحاسم في تكالب القوى الخارجية على المنطقة العربية. والجغرافي بالمفهوم التقليدي هو من يقوم برسم الخرائط بناء على رحلات يقوم بها بذاته إلى أرجاء المعمورة، يسجل خلالها مشاهداته المختلفة. في القرن الثامن عـشر، انتقل علم الجغرافيا إلى مرحلة جديدة، فأخذت دراساته تهتم بمعالجة العلاقات المتبادلة بين الظاهرات المختلفة. وجرى توصيفه بأنه العلم الذي يدرس سطح الأرض، على اعتبار أنه ميدان الحياة البشرية، وما عليه من ظاهرات طبيعية وبشرية. ووفقا لهذا التعريف أصبح الجغرافيا علما مركبا من ظواهر طبيعية وأخرى بشرية.
تغيب هذه المفاهيم الرؤية ديناميكية للجغرافيا. ولا تهتم بتحديد شخصية المكان، ذلك لأن العلاقة بينه وبين الإنسان ليسـت ساكنة أو أحادية الجانب، بل علاقة تبادل وتـكافؤ. ولذلك ترى في الفصل بين العلوم الطبيعية ومختلف العلوم الاجتماعية، فعلا تعسفيا.
الوطن العربي، هو جملة أقاليم بسمات طبيعية وثقافية واجتماعية. وتعريف الإقليم يعتبر معضلة بحد ذاته. فالبعض يعرفه من حيث انعزاله أو انفصاله كالقول بوادي النيل، أو من حيث الانسجام النسبي في الولاء والوطنية كالوطن العربي، أو من حيث تسمية إستراتيجية تطلقها واحدة من القوى العظمي كالشرق الأوسط.
وتواجهنا أيضا مشكلة تعريف حدود أقاليمه. فواقع الحال يشير إلى أن العالم لا ينقسم بسهولة وفق خطوط مرسومة بشكل دقيق. إذ إن من الصعب تثبيت التقسيمات الإقليمية الموضوعة على نحو عقلاني، كما أن الحدود المقررة لخدمة غرض ما ليست بالضرورة مناسبة لخدمة أغراض أخرى.
وعلى هذا الأساس، فإن مسألة تثبيت حدود الإقليم هي قضية ذاتية، لا وجود لمنهج يحدد حيثياتها، وذلك ما يجعل قضايا السيادة مرهونة بالهوى وتوازنات القوة. كما يجعل منها قضية اعتباطية. ولذلك لا بد من اجتراح بعض المعايير لتحديد شخصية الإقليم، من ضمنها وجود صفات ومميزات مشتركة، تتفاعل فيما بينها بانتظام وقوة، تقيم من خلالها نمطا من العلاقات والروابط فيما بين أجزاء الإقليم.
وإذا أخذنا بالقول بأن شخصية الإقليم تتحدد من خلال انتماء أهله لعصبية أو عقيدة واحدة، فهل لتلك العصبية صفة الثبات؟ وماذا يعني انتفاء تلك العصبية، هل يترتب عليه ذوبان الإقليم وفقدانه لهويته، وبالتالي لوجوده؟ وهل التجانس الطبيعي شرط لوجود الإقليم وهل هناك تخوم/حدود للإقليم، أم أنه يتوسع ويتقلص تبعا لمتغيرات، وما هي تلك المتغيرات؟
وهكذا ففي ظل هذا الركام من الأسئلة، وغياب المفهوم الدقيق والواضح، فإنه لا مندوحة من الاستعانة، بالعرف والتاريخ كي يسعفا في حل هذه المعضلة.
أما التاريخ، فإنه العلم الذي يستخدم للإشارة إلى الأفعال والأعمال التي شكلت مجتمعة ماضي الإنسان. والقيمة التي يعطيها المؤرخ إلى البحث عن الماضي كما وصل إلينا. إلا أننا في الغالب لا نميز، عند قراءتنا للتاريخ بين شيئين مختلفين: مجموع أحوال الكون في زمان غابر، ومجموع معلوماتنا حول تلك الأشياء. والتاريخ العام، هو مجموع الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة، أما ما هو مدون لدينا، فهو مجموع ما تمكن الإنسان من اكتشافه وتدوينه، وهذا يعني أن هناك فارقا كبيرا بين ما هو حقيقة وما هو مدون. ولهذا فإن من الأهمية أن يستمر النضال الإنساني المعرفي لتحقيق التطابق بين الواقع والمعلوم.
وأخبار الماضي لا تعني شيئا، إن لم تكن ماثلة في ذهن الحاضر، والمعرفة بها نسبية، كونها ذات صلة مباشرة بفهم ومتطلبات الوضع القائم، ومهمتها هي الإجابة عن أسئلة حالية. فالماضي إذاً موجود في الحاضر في شكل خبر. والمؤرخ حين يقارن بين حوادث الماضي، فإنه لا يفعل ذلك اعتباطا، بل إنه بذلك يوجه رسالة، ولذلك جعل القدماء من التاريخ مدرسة تابعة للسياسة والأخلاق. وذلك يبدو أمرا منطقيا، فالوعي بالقدرة على الترجيح والاختيار يفترض فيه أن يكون متلازما بالملاحظة والاستنباط.
صحيفة الوطن أون لاين
أضيف بتاريخ :2016/06/22