آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
قاسم حسين
عن الكاتب :
كاتب بحريني

حلم العدالة الغائبة


قاسم حسين ..

أحد أسرار خلود الإمام علي (ع) وهيمنته على القلوب، التحامه التام بقضية العدالة، الحلم الضائع الذي ظلّ يداعب أفئدة البشر عبر العصور.

ارتبط منذ نعومة أظفاره بقضية الإنسان، وعاش طفولته في كنف صاحب الرسالة الجديدة، وتشبّع بأفكاره ومبادئه، وقيمه وسجاياه. وهيّأت الظروف الاقتصادية الصعبة التي مرّت بها مكّة لهذا الارتباط قبل البعثة، فاتفق الرسول (ص) وعمّه العباس على مساعدة أبي طالب، بتبنّي رعاية بعض أولاده، فقال لهما: «اتركوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم»، فاختار العباس طالباً، واختار النبي علياً، ليعيش في كنفه ويشهد بدايات البعثة ونزول الوحي.

عاش مع النبي طوال الفترة المكية، ولحق به بعد هجرته إلى المدينة بأيام، تطبيقاً لوصيته بإرجاع أمانات قريش وودائعهم. وفي العام التالي، في السابع عشر من رمضان، وقعت غزوة بدر، حيث استطاع لوحده أن يقضي على نصف عدد قتلى المشركين السبعين. كان يتقدّم صفوف المسلمين، ولعب دوراً بارزاً في جميع الغزوات التالية (عدا تبوك)؛ وكان حضوره مصدر طمأنينةٍ لجيش المسلمين، لشجاعته وإقدامه وجرأته على منازلة الأبطال المشهورين بالبطش. فدافع عن النبيّ في أحد، وفي غزوة الأحزاب قتل عمرو بن عبد ود العامري الذي اجتاز تحصينات المدينة بالخندق، وفي خيبر أسقط حصون اليهود وأنزلهم من صياصيهم (170 كم شمال المدينة المنوّرة).

نزل الإسلام حركةً تحرريةً، ضمن سياق الرسالات الكبرى، التي تهدف إلى أن يقوم الناس بالقسط، وتضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. وكانت حركة الأنبياء تهدف إلى العدالة والإنصاف والمساواة بين البشر، ومحاربة الظلم والخرافة وعبادة البشر وقوى المال. وهي المبادئ العليا التي ظلّ عليٌّ مخلصاً لها، وساعياً أميناً لتطبيقها، ودفع أثمان هذا الموقف المبدئي حتى آخر يوم من حياته.

كان ترشيحه للحكم غريباً وغير مسبوق، فبعد اضطراب الدولة الإسلامية، وخلو منصب الخلافة، انثالت عليه جموع الجماهير، فأحجم عن القبول، وقال قولته المشهورة: «دعوني والتمسوا غيري. فأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم مني أميراً». وحين زاد الضغط الجماهيري، قبِل بشرط أن يحملهم على ما يؤمن به من حق، ويطبّق حدود العدالة بحذافيرها، وهكذا تمّت بيعته.

كانت آمال الجمهور كبيرةً بإصلاح الأوضاع، ومن الأيام الأولى أعلن بوضوح تام سياسته المالية الجديدة التي ستكون محور النزاعات المقبلة: «والله لو وجدته (المال) تُزوّج به النساء ومُلك به الإماء لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق». وكان يردد قائلاً: «لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله». هذا الموقف هو الذي ألّب عليه الكثيرين، بمن فيهم بعض رفاق دربه، فاختاروا حربه رغم علمهم بنزاهته وطهارة يده وقلبه.

تروي كتب التاريخ الكثير من قصص نزاهته وعدله ورفقه بالرعية، التي زينّت حياته وجعلته أيقونة عشقٍ تهواه قلوب الحالمين عبر القرون. يحمي حديدةً في النار ويقرّبها من أخيه الأكبر عقيل، وكان كفيفاً، حين سأله أن يعطيه من مال المسلمين، ولم ينتظر حتى يعطيه من نصيبه من الخراج. ويهينه بائعٌ في سوق الكوفة وهو لا يعرفه، حين طلب منه أن ينصف امرأةً كانت تشتري منه، وحين اكتشف أنه الخليفة انهار عند قدميه، فلم يطلب منه غير إنصاف المرأة. وحين اكتشف أسرةً جائعةً في ولايته، أسرع إلى بيته وأحضر لهم مؤونةً، وأمر المرأة بتسلية أطفالها الجوعى، وشرع في صنع الخبز لهم، وأخذ يدني وجهه للنار ويخاطب ربه: «اللهم اغفر لعليّ». أية عظمةٍ، وأي إنسان؟

كان حسَّاساً في موضوع العدالة، حريصاً جداً ألا يُظلم أحدٌ في حكومته، وحساساً جداً في موضوع محاربة الفقر والجوع، وكان يقول: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته». وكان يعيش بمستوى أقل من حدّ الكفاف، يأكل الرغيف اليابس، يبله بالماء أو قليل من اللبن، مساواةً لرعيته، وتحرُّجاً من وجود فقراء لا يصلهم نصيبهم من بيت المال.

إنه قصة عشق إلهي، والتحامٌ تامٌّ بقضية العدالة، واندماجٌ كاملٌ بقضايا الإنسان.

صحيفة الوسط البحرينية

أضيف بتاريخ :2016/06/27

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد