بريطانيا.. انتقام التاريخ وثأر الجغرافيا
عبداللطيف الضويحي ..
جاء التصويت البريطاني بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي بمثابة ربيع أوروبي يشبه كثيراً الربيع العربي، سرعان ما أرسل موجاته وذبذباته تتردد في أوروبا من أقصاها إلى أقصاها وعبر المحيطات ليسمعه ويرقص على نغماته القوميون الأمريكيون واليمين الذي تسكنه هواجس الأمن والاقتصاد والتاريخ ومنهم الذين يطربون لعزف ومعزوفة المرشح الجمهوري ترامب بطريقة تذكرنا بمراحل الربيع العربي وتنقلاته في عدد من الدول العربية وإن كانت هذه المرة على إيقاع الديموقراطية الأوروبية.
بريطانيا العظمى التي لم تغب الشمس عن إمبراطوريتها إبان الحقبة الاستعمارية، لم تعد عظمى منذ انفرط عقد مستعمراتها ونالت أغلب مستعمراتها استقلالها بعد أن أصبح الاستعمار مكلفاً على بريطانيا والدول الاستعمارية ككل. فكما هو معروف، الاستعمار لا يندحر إلا حين يكون مكلفا كلفةً باهظة، من هنا غابت شمس بريطانيا عن معظم مستعمراتها في العالم منذ منتصف القرن الماضي.
اليوم تغيب شمس بريطانيا للمرة الثانية ولكن هذه المرة عن قارتها العجوز أوروبا. فهل تغيب شمسها هذه المرة بسبب التكلفة الباهظة لعضويتها في الاتحاد الأوروبي؟
من المؤكد أن الاقتصاد يقف بقوة وراء رغبة كلا المعسكرين في التصويت، معسكر الانفصال ومعسكر البقاء، وهو السبب الذي طغى على المشهد إلى ما قبل التصويت بأيام، لكن المؤكد كذلك أن البريطانيين وكذلك الأوروبيين مسكونون بالهاجس الأمني منذ اندلاع أزمة اللاجئين من سورية والعراق وليبيا وقبلها من أفغانستان والصومال. لكن الموجات الأخيرة من آلاف اللاجئين إلى العديد من الدول الأوروبية تزامنت مع مخاوف وهواجس من أن يكون العديد من الإرهابيين يأتون من بين موجات اللاجئين الذين يتنقلون من دولة أوروبية إلى أخرى رغم الإجراءات المشددة والقيود التي عانى منها اللاجئون خاصة بعد أحداث باريس وأحداث بروكسل.
يعد اللاجئون هم القشة التي قصمت ظهر أوروبا من الناحيتين الاقتصادية والأمنية ومن المنتظر أن تتداعى تبعات هذا الانفصال أفقيا على الصعيد الأوروبي ورأسيا على صعيد الوحدة البريطانية الهشة على ما يبدو، حيث سكوتلاندا وشمال إيرلاندا ولأسباب تتجاوز أزمة اللاجئين الاقتصادية والأمنية إلى أسباب زمنية وثقافية واقتصادية، هما قاب قوسين من الانفصال عن المملكة المتحدة.
غير أن الزواج البريطاني الأوروبي لم يكن ناجحا أساسا. فمنذ البداية، كان زواجاً يحمل بذور الطلاق وكأنه زواج تم بالإكراه بين طرفين وجدا نفسيهما وحيدين فجأة في قارب بعرض البحر.
البريطانيون التقليديون شديدو الاعتداد ببريطانيتهم. كثيرا ما يطرح البريطانيون مسألة الهوية والانتماء الثقافي الاجتماعي والقومي البريطاني وما إذا كان انتماؤهم أقرب للكتلة السكانية في الولايات المتحدة الأمريكية أم للفسيفساء السكانية في أوروبا والتي يراها اليمينيون والقوميون سببا في تذويب هويتهم وتمييع انتمائهم. يكفي هذا التيار اللغة الإنجليزية التي هي بمثابة الحبل السري الذي لم ينقطع بين البريطانيين والأمريكيين وبقي يغذي هذا الانتماء ويذكر به رغم المحيطات الفاصلة بينهما. في المقابل يرى هذا التيار الرابطة الجغرافية الأوروبية سببا بتدفق الأوربيين الأقل نموا من الدول الأوروبية الأضعف اقتصاد من قبارصة وأوروبيين شرقيين مع المهاجرين واللاجئين وأخذ الفرص المتاحة على حساب البريطانيين حيث أصبحوا يزاحمون البريطانيين بعيشهم.
منذ أصبح الاقتصاد بوصلة الحياة والشعوب وحتى الأوطان. يمكن أن تكون الديموقراطية أداة لإعادة تحديد الأوطان بما يراه المواطنون. فهل يشهد العالم مزيدا من تقسيم الدول بما يمليه الاقتصاد والأمن على حساب الجغرافيا والتاريخ؟ وهل يصبح المواطن في زمن العولمة بمقدوره أن يعيد تشكيل دولته فيخلع إقليما ويضيف إقليما؟ فتنتمي دولته أو جزء منها للصين هذا العام ولأوروبا في العام الذي يليه وللأرجنتين في العام الذي يليه ولجنوب أفريقيا لمدة خمس سنوات ولمصر سنتين؟
فلماذا تحتفظ الدول بمساحة جغرافية كبيرة وبكثافة سكانية هائلة، إذا كان بمقدورها أن تكون قوية اقتصاديا وأمنيا وسياسيا وثقافيا بواسطة التقنية الحديثة وإدارة مصالحها عن بعد وبدون هذه المساحات الجغرافية المكلفة ومن دون تلك الكتل السكانية غير المنتجة؟ هل نحن أمام مفهوم جديد للدولة الذكية تكون سمةً للدولة الحديثة تتخلص فيها الدول من السكان العبء والجغرافيا العبء وسلخ ودمج وتوحيد وإعادة رسم مفاهيم الوطن الذكي بأقل كلفة جغرافيا وسكانية وصولا للدولة ما بعد العولمة؟ ربما تتحقق المساواة فيه بين المستعمرين القدامى والدول الناشئة بمقاييس جديدة للنجاح فتتساوى فيه الدول المصدرة للاجئين والمهاجرين مع الدول المستوردة للاجئين والمهاجرين؟؟
صحيفة عكاظ
أضيف بتاريخ :2016/06/28