آراء ومقالات

معلومات الكاتب :

الاسم :
د. سعيد الشهابي
عن الكاتب :
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

صراع الحضارات ليس خيارا لعالم متحضر

 

د. سعيد الشهابي

مضى على إطلاق مقولة «صراع الحضارات» ثلاثون عاما تقريبا، واعتقد الكثيرون أنها توارت تماما وراء التطورات السياسية والايديولوجية اللاحقة. فما من عاقل راجح يرغب في تأجج الصراع بين الأمم على أساس الانتماءات الفكرية أو الدينية او الحضارية.
وكما يمقت الكثيرون صعود النازية في أوروبا في القرن الماضي واستهدافها اليهود بشكل واضح، فإنه يمقت كذلك السعي لشيطنة أي مكون بشري ومن ثم استهدافه بهدف القضاء عليه. وما إن انتشر الوباء في الهند في الأسابيع الأخيرة بمعدلات تفوق التصور حتى هلع العالم لإعلان التضامن وإرسال المساعدات، ولم يلتفت للهوية الدينية او الحضارية للمتضررين في شبه القارة الهندية. وبرغم أن الحكومة الحالية بزعامة نارندرا مودي تتسم بالتطرف والعداء العميق للمسلمين فقد هرع المسلمون كغيرهم، داخل الهند وخارجها، لبذل الجهود بهدف احتواء الوباء. كما أن التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني الذي يعيش منذ ثلاثة أرباع القرن مشردا تأكيد آخر للمشاعر الإنسانية التي تختزن الخير وتتسامى على الأحقاد والتعصب. وفي حقبة الصراع ضد العنصرية في الثمانينيات وقف العالم (ما عدا بعض دول «العالم الحر» ) ضد نظام الفصل العنصري، وتحول نيلسون مانديلا إلى أيقونة للحرية والنضال من أجل العدالة والإنسانية. فماذا يعني ذلك؟
إن من الخطأ الكبير استهداف مجموعة بشرية بسبب اختلافها العرقي أو الديني أو الايديولوجي. وما يحدث الآن بإقليم «تيغراي» الإثيوبي يمكن تصنيفه ضمن المحطات السوداء من التاريخ البشري، تماما كما كان الصراع في رواندا قبل أقل من ثلاثين عاما بين الهوتو والتوتسي، وكما كان الوضع في البوسنة والهرسك في تلك الفترة ايضا.
النوع الإنساني يتمتع بفطرة ربانية تجعله يشعر بتساوي أفراده على اختلاف اللون والعرق واللغة والانتماء الديني، وعلى أساس الكرامة الإنسانية التي أكدتها شرائع السماء: ولقد كرّمنا بني آدم. فإذا ظهرت مشاعر مختلفة عن هذه الفطرة فيجب أن توجه أصابع الاتهام لبعض البشر الذين استحوذ عليهم الشيطان، فأصبحوا يميزون بين أفراد الجنس البشري ويتحركون بدوافع من التعصب والكراهية بدلا من الحب والإنسانية. وتبدأ الأزمات من هذا النوع بظاهرة «التعميم» التي تستحضر خصوصية ضيقة لشخص ارتكب خطأ أو جرما، وإصدار حكم عام على كل من يحمل تلك الخصوصية. ولذلك كادت ظاهرة الإرهاب التي مارستها بعض المجموعات التي ترفع شعار الإسلام تتحول إلى حقيقة مطلقة تربط الإسلام والمسلمين بظاهرة الإرهاب. هذا برغم أن نسبة الاشخاص الذين يمارسون تلك الظاهرة لا تساوي شيئا اذا قورنت بعدد المسلمين في العالم الذين يتجاوز عددهم مليارا ونصف المليار. فليس هناك «إرهاب إسلامي» لأن الإسلام لا يختلف عن بقية الأديان السماوية في نبذ العنف والدعوة للسلام والأمن. ولأن الغالبية الساحقة من المسلمين لا تختلف عن بقية البشر الذين يحبون الأمن والسلام ويرفضون العنف. مع ذلك ما يزال بعض ساسة «العالم الحر» يمارس الأساليب القديمة في التعميم والتنميط ويرفض تحكيم العقل والانتماء الإنساني في قضايا الخلاف والاختلاف. يضاف إلى ذلك تنامي ظواهر «الانتقائية» و«المعايير المزدوجة» في التعاطي مع القضايا المتماثلة. فمثلا ما تزال فرنسا توفر ملاذا آمنا لأفراد مجموعة «الألوية الحمراء» الايطالية التي ذاع صيتها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ثم توارت عن الأنظار ولجأ أفرادها إلى فرنسا التي احتضنتهم وما تزال، ورفض الرؤساء السابقون مثل دانيال ميتران وساركوزي تسليمهم إلى إيطاليا التي تطالب بهم.

مطلوب من العالم الإسلامي مواقف سياسية قائمة على التفاهم والتنسيق والتواصل مع القوى الدولية لمد الجسور ومنع تعمق الشكوك بين مكونات هذا العالم


فرنسا هذه هي نفسها التي تعج اليوم بالدعوات للتصدي للإسلام. وتصل المبالغة والتهويل إزاء «الخطر الإسلامي» إلى حد الزعم بأن «فرنسا تتصدع» بفعل هذا الخطر. وفي الشهر الماضي نشرت مجلة يمينية تدعى «فالور أكتيوال» رسالة بعنوان «من أجل عودة شرف حكامنا: 20 جنرالا يطالبون ماكرون بالدفاع عن حب الوطن». كان وراء الرسالة 24 جنرالا فرنسيا ومائة ضابط كبير وأكثر من ألف من العسكريين المتقاعدين. الرسالة وجهت النقد الحاد للمنظومة السياسية و«أولئك الذين يديرون البلاد» بدعوى تنبيهها إلى المخاطر الوشيكة، مستخدمين عمليا خطاب اليمين المتطرّف الفرنسيّ بالطريقة الشعبوية المعروفة، مع استخدام كلمات «الخطر» و«الموت» و«التفكك» و«الحرب الأهلية». والعنصرية هنا ليست خطاب اليمين المتطرف المناهض للمهاجرين والأقليات بل ما يسميه الخطاب «الظاهرة الإسلامية وجحافل الضواحي» التي تعتبر مخاطر يجب «التحلي بالشجاعة اللازمة للقضاء» عليها، عبر تطبيق «القوانين الموجودة بالفعل بكل صرامة».

هذا التحريض ينطلق من جنرالات وضباط متقاعدين، الأمر الذي يضفي عليه أهمية متميزة وان كان هؤلاء لا يملكون صلاحيات تنفيذ ما يدعون إليه.
ومن المؤكد أن هؤلاء متأثرون بالحملات الإعلامية والسياسات الحكومية التي تستهدف الظاهرة الإسلامية عموما ومنها الالتزام الديني. ففي العام 2011، أصبحت فرنسا أول دولة في العالم تحظر على النساء ارتداء أي نوع من غطاء الوجه في الأماكن العامة. وفي 2014، صادقت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان على القانون الفرنسي الخاص بحظر النقاب، مؤكدة أن فرنسا لا تنتهك بذلك القانون خصوصية مواطنيها المسلمين وحريتهم في التعبير والمعتقد. في 30 مارس/آذار، صوّت مجلس الشيوخ الفرنسي لصالح «قانون الانفصالية» الذي «يهدف لفرض قيم الجمهورية، وإعطاء الدولة الأدوات اللازمة لمحاربة التطرف الإسلامي». وتزعم فرنسا أن من ركائز هذا القانون مقاومة كل أشكال قمع المرأة وانتهاك كرامتها.
من حق الدولة الفرنسية وسواها التعاطي مع هذه الظواهر وفق القانون، ولكن توسيع دائرة الاستهداف بتأسيس ذلك على فرضيات خاطئة سيؤدي إلى تفاقم المشكلة، لتتحول إلى حرب حقيقية ضد الإسلام كدين. ولدى فرنسا جالية مسلمة كبيرة، فهل من المنطق السماح بالتعدي عليها إعلاميا وسياسيا كما يحدث الآن؟
يفترض أن تكون التجارب المعاصرة خصوصا في مجال النزاعات الفكرية والسياسية والعسكرية مانعا ضد التهور أو تأسيس مواقف الدول على التنميط والعصبية والإقصاء. فذلك لا يخدم الأهداف البشرية في شيء خصوصا في مجالات التعايش السلمي وبث الأمن والسلم الدوليين والعمل الدولي المشترك. وقد أثبتت ظاهرة ترامب في أمريكا عدم الجدوى من التطرف السياسي والايديولوجي من جهة، وعدم التعويل على الظاهرة الشعبوية التي تضر المجتمعات الغربية بشكل لا يقل عما تلحقه بغيرها من المجتمعات من جهة أخرى. فمن الخطر الكبير الانخراط في سياسات ومشاريع ومواقف تساهم في حدوث صراع حضاري مدمر.
من المؤكد أن الأعمال التي تمارسها مجموعات صغيرة باسم الدين لا تخدم أهدافا نبيلة ولا تساهم في تكريس فكرة وحدة الجنس البشري، ومن المؤكد كذلك أن قيم استبدال العقل والمنطق والمعرفة المؤسسة على الدليل بقيم التنميط وإملاءات التعصب والاستعلاء والعنصرية، لا يساهم ايضا في ذلك. فما العمل اذن؟
مطلوب من العالم الإسلامي مواقف سياسية قائمة على التفاهم والتنسيق والتواصل مع القوى الدولية لمد الجسور ومنع تعمق الشكوك بين مكونات هذا العالم. كما ان الأمم المتحدة مطالبة بالتدخل بين الحين والآخر لضمان بقاء السياسات الدولية ضمن سياقها المنطقي الذي يحتوي الخلافات ويمنع التطرف والتعصب. أما الموقف الأهم فيجب أن ينطلق من الاتحاد الأوروبي الذي يستطيع ممارسة دور ايجابي لتوجيه سياسات دوله. وفرنسا لاعب أساس في الاتحاد، ومن الضرورة بمكان أن تكون سياساتها منسجمة مع تطلعات شعوب العالم للعيش بأمن واستقرار، بعيدا عن التهديد او التحاقد او التعصب.
جريدة القدس العربي

أضيف بتاريخ :2021/05/03

تعليقات الزوار

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد