الوعد الثاني بعد "بلفور".. لنتوحّد الآن وفوراً
عقل صلاح
لماذا الآن؟ لأنَّ "إسرائيل" لا تتوقع حدوث ردود فعل فلسطينية لا يمكن السيطرة عليها. وقد عبَّر عن ذلك رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق، عاموس يادلين، بقوله إنَّ الفلسطينيين والعرب "يهدّدون بمسدس فارغ".
تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على صفقة القرن، من حيث الدواعي والأهداف التي أدت إلى الإعلان عنها، وهي تتناول الموقف الفلسطيني الرسمي وغير الرسمي، والمطلوب من كل من القيادة والتنظيمات والشعب بعد الإعلان الرسمي عنها من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 28 كانون الثاني/ يناير 2020، في ظلِّ الدَّعم الأميركيّ الواضح والمستمر لـ"إسرائيل"، في الوقت الذي تتراجع أولويَّة القضية الفلسطينية في السّياسات العربيّة.
بعد أكثر من قرن على وعد بلفور، تمَّ إعلان وعد جديد يمكن أن يُطلق عليه "الوعد الثاني"، ولكن هذه المرة جاء الوعد من أميركا - وعد ترامب - الذي يمنح القدس لـ"إسرائيل"، من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"دولة الاحتلال"، وعليه تم نقل السفارة الأميركية إلى القدس.
لقد تكرَّر مشهد بلفور "الّذي أعطى من لا يملك لمن لا يستحق". والمهمّ أنّ وعد ترامب لا يمكن أن يحدث لولا الموقف العربي المتخاذل والموافق على هذا القرار. وأكبر دليل على ذلك أنَّ كلّ المواقف العربيّة الرسميّة بعد اتخاذ القرار لم تتجاوز الاستنكار والشجب.
وقد أصرَّ رؤساء الولايات المتحدة منذ العام 2007 على أنه ينبغي للعرب والفلسطينيين الاعتراف بـحقّ "إسرائيل" في الوجود كدولة يهودية. وقام ترامب الَّذي يوصف بشدة عدائه للفلسطينيين، بتهديدهم إن رفضوا الصفقة. وتهدف صفقة القرن التي صيغت بأيدٍ إسرائيلية، وليس للولايات المتحدة فيها أي دور سوى تبنّيها والإعلان عنها بشكل رسميّ، إلى تصفية القضية الفلسطينية لصالح "إسرائيل"، كما تهدف إلى إلغاء حقّ العودة للاجئين في الشتات، عبر إنهاء دور الأونروا، من أجل ضمان عدم تفوّق أعداد الفلسطينيين على الأقلية اليهودية، لأنّ "إسرائيل" تعاني اليوم من خطر الديموغرافيا.
لقد قامت الولايات المتّحدة بعقد ورشةٍ في البحرين في 25 حزيران/ يونيو 2019، تحت شعار "السلام من أجل الازدهار"، وهي ليست أكثر من آليّة للتعويض عن الدَّعم الأميركي الثابت لرفض "إسرائيل" التنازل عن أيٍّ من الأراضي الفلسطينية ودعمها لرفض "إسرائيل" منح أيّ حقوق للفلسطينيين الَّذين لم تعد قادرة على طردهم، فبدلاً من منحهم حقوقهم المعترف بها دولياً، تعرض الصَّفقة ملء جيوب الحكام ورجال الأعمال العرب والفلسطينيين الذين كانوا دائماً من المستفيدين من معظم الصفقات الأميركية والإسرائيلية السابقة.
لقد أقدمت الإدارة الأميركيَّة، بقيادة ترامب، على تنفيذ العديد من القرارات التي تدعم "إسرائيل" وتدمّر القضية الفلسطينية. ومن هذه القرارات التدميرية، الإعلان في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017 عن أنَّ مدينة القدس عاصمة لـ"دولة الاحتلال". وفي 14 أيار/ مايو 2018، نقلت السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة. وفي 2 آب/ أغسطس 2018، تم وقف المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينيّة. وفي 3 آب/ أغسطس 2018، تم قطع كامل المساعدات عن الأونروا.
وفي 10 أيلول/ سبتمبر 2018، أغلق مكتب منظمة التحرير في واشنطن. وفي 25 آذار/ مارس 2019، تم الاعتراف بسيادة دولة الاحتلال على مرتفعات الجولان السوري المحتل. وفي 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، تمت شرعنة المستوطنات القائمة على أراضي الضفة الغربية، وهدَّدت الإدارة الأميركية بالموافقة على ضمّ وفرض سيادة "إسرائيل" على الأغوار والبحر الميت وتوسيع المستوطنات في الضفة.
وقد أعلن السّفير الأميركيّ المتصهين ديفيد فريدمان في "إسرائيل"، في مؤتمر صحافي عقده برفقة نتنياهو في القدس المحتلة في 9 كانون الثاني/ يناير 2020، أنَّ المرحلة التالية بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، بعد الاعتراف بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، وبسيادتها على مرتفعات الجولان السورية، هي الضفة الغربية.
وترى "إسرائيل" أنَّ القرار الأميركي لا يحمل سوى دلالة رمزية، بالنظر إلى سيطرة "إسرائيل" واقعيّاً على المدينة. لقد أصدر الكونغرس الأميركي هذا القرار في العام 1995. وعلى مدار 22 عاماً، قام الرؤساء الأميركيون بتأجيل تنفيذه بصورة روتينية كلّ ستة أشهر. ومنذ احتلال "إسرائيل" كامل أرجاء المدينة في العام 1967، عكفت على تعزيز هيمنتها على القدس، ووصلت المحاولات أوجها في العام 1980 بإصدار "قانون أساس القدس عاصمة إسرائيل".
ويقودنا هذا إلى تساؤل مفاده: لماذا الآن؟ لأنَّ "إسرائيل" لا تتوقع حدوث ردود فعل فلسطينية لا يمكن السيطرة عليها. وقد عبَّر عن ذلك رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي السابق، عاموس يادلين، بقوله إنَّ الفلسطينيين والعرب "يهدّدون بمسدس فارغ".
ويؤكّد الوزير الإسرائيليّ، يسرائيل كاتس، أنّ الإدارة الأميركية قامت مسبقاً بالتنسيق مع قادة من الدول العربية بشأن قرار ترامب، وذلك لضمان احتواء ردّ الفعل الفلسطيني على القرار. وعلى المنوال نفسه، أكَّد رئيس الأركان الإسرائيلي، الجنرال غادي إيزنكوت، أنّ هناك توافقاً مع السعودية لمواجهة الخطر الإيراني .
يتجلّى مما سبق أنَّ الموقف الرسمي العربي- الإسلامي تجاه قرار ترامب يؤكّد أنَّ علاقاتهم مع "إسرائيل" أهم من المقدسات الإسلامية والقضية الفلسطينية، فردود الفعل الرسمية على القرار لم تصل إلى مستوى الشجب والاستنكار، فاجتماع رؤساء الدول العربية والإسلامية في قمة اسطنبول لم ينتج منه حتى قرار واحد على المستوى الرسمي يؤكّد رفض هذه الدول المجتمعة لقرار ترامب. فعلى سبيل المثال، لم يتم قطع العلاقات مع "إسرائيل" ومع أميركا أو سحب سفرائهم منهما، أو طرد السفراء الإسرائيليين والأميركيين من بلادهم، إضافةً إلى أن بعض الدول العربية متواطئة مع هذا القرار، وتريد منع أيّ حراك ضده.
وكشف عضو اللجنة المركزية لحركة فتح حينها، محمد اشتية، ورئيس الوزراء حالياً، أنَّ دولاً عربية أفشلت عقد قمة عربية طارئة، فالتضامن العربي مع القضية الفلسطينية كان باهتاً جداً. ويتبدّى ذلك من خلال تصريح لوزير خارجية البحرين، خالد بن أحمد آل خليفة، في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2017، بيَّن فيه أنَّ قضية فلسطين قضية جانبية، وليس من المفيد إثارة الخلاف مع أميركا بشأنها .
فكلّ من "إسرائيل" وأميركا تدركان ما تفعلان، الأولى متأكّدة تماماً من أنه التوقيت المناسب، ولن يكون هناك أي حراك، ولو حتى بالكلمة على المستوى العربي الرسمي، فقد عملت بكلِّ جهدها في الدول العربية على المستوى الرسمي والشعبي خلال الفترة السابقة على شيطنة الفلسطينيين ونقل القضية الفلسطينية من قضيّة محوريّة للعرب والمسلمين إلى قضية هامشية.
وهنا، نستطيع القول منذ اليوم الأول من الإعلان عن صفقة القرن، وحتى الإعلان الرسميّ عنها في أواخر كانون الثاني/ يناير 2020، إنَّ القرارات الفلسطينيّة وردود الفعل على المستويين الرسمي وغير الرسمي لم تكن ترتقي إلى مستوى خطر صفقة تصفية القضية الفلسطينية، وإنما كانت ضمن دائرة اللغو والرفض الكلاميّ الّذي لا يغني ولا يسمن من جوع، والذي سيضعهم على المستوى الرسمي في دائرة التشكيك بجدية رفض الصفقة، لعدم اتخاذهم قرارات بحجم الكارثة التي حلَّت بالقضية الفلسطينية.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: بعد كلّ القرارات سارية التنفيذ التي اتخذتها الإدارة الأميركية و"إسرائيل"، لم يتم الإطاحة برأس التنسيق الأمني، ابن أوسلو، فمتى سيتم الإطاحة بالأب والابن معاً؟
يجب أن تكون القرارات بحجم الكارثة التي حلّت وستحلّ بالقضية الفلسطينية، فالحل واضح وصريح، ويكمن في الحل، وهو حلّ السلطة وإعادة البضاعة - التالفة أوسلو - إلى أصحابها وبخلاف ذلك، ستُنفذ، وسيتم ضم الأغوار، ونحن في مكانك سِرْ، بل على العكس تماماً، إلى الخلف درّ. فعلى الشَّعب والقيادة والفصائل أن يدركوا أنّ ما حلّ بهم هو زلزال، وعليهم اتخاذ قرارات طوارئ لمواجهته، وليست قرارات روتينية كسابقتها، والتي لم ترتقِ إلى الزلزال الإسرائيلي الأميركي الذي يتطلب من الفلسطينيين خطَّة طوارئ لإعادة القضية إلى نقطة الصفر، وليتحمل العالم المسؤولية، ولتكُن "إسرائيل" مسؤولة عن تبعات زلزالها.
وعليه، يتطلَّب من السلطة البحث عن خيار بديل للمفاوضات، وقلب الطاولة لعودة القضية الفلسطينية إلى الاهتمام الدولي والإقليمي، ولكنَّ السلطة التي لا تؤمن بغير طريق المفاوضات عاجزة في ظلّ القيادة الفلسطينية الحالية عن اتخاذ أيّ قرار مصيريّ واستراتيجيّ، كما فعل الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي توصَّل إلى نتيجة مفادها أن لا حل للقضية الفلسطينية، ولا وجود لدولة في الأفق، وما يعرض هو أقلّ من حكم ذاتي، فعمل على اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000.
بناءً على ما سبق، المطلوب من الفلسطينيين على المستوى الرسمي وغير الرسميّ لمواجهة خطوة الإعلان الرسمي عما يسمى "صفقة القرن":
أولاً، على المستوى الرسمي الفلسطيني، تتحمّل القيادة الفلسطينية كل المسؤولية عن الدور المنوط بها لمجابهة صفقة القرن، ويتطلَّب منها القيام بالخطوات التالية:
1. تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي اللذين نصّا على تحديد العلاقة مع "إسرائيل"، وسحب الاعتراف بها، وقطع التنسيق الأمني.
2. دعوة الإطار القيادي على مستوى الأمناء العامين، واتخاذ قرار فوري بإعادة الاعتبار إلى منظمة التحرير، والمصالحة مع الجبهة الشعبية، ورفع العقوبات المالية عنها، وضم حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى المنظمة فوراً.
3. فتح المجال أمام الجماهير لتولي زمام المبادرة، وعدم تدخّل الأجهزة الأمنية بالفعل الشعبي والمقاومة، بل يجب أن تكون الأجهزة عامل داعم ومساند للتحركات، وحماية الشعب من خطر الاحتلال.
4.إعلان الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس من أمام ضريح الشهيد ياسر عرفات.
5. إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين في السجون الفلسطينية.
6. إحراق كلّ بطاقات الشخصيات المهمة التي تصدرها "إسرائيل" لمسؤولي السلطة الفلسطينية.
7. إنهاء الانقسام، وإعلان الوحدة الوطنية، ورفع العقوبات عن القطاع فوراً.
8. تكليف قيادة فلسطينية لقيادة المواجهة الحقيقية - المقاومة - مع الاحتلال، يكون مقرها الخارج والقطاع، وتكون قيادة الضفة للمواجهة الشعبية.
9. الإعلان عن جميع الكتائب الفلسطينية المسلّحة بأنها نواة الجيش الفلسطيني.
10. دعوة كلّ المنظمات العربية والإسلامية، واتخاذ موقف رافض للصفقة.
11. التحرك على المستوى الدولي لرفض الصفقة، وإعادة الملف الفلسطيني إلى الشرعية الدولية.
ثانياً، على مستوى الفصائل الفلسطينية، فالمطلوب منها تحمّل المسؤولية التاريخية، والابتعاد عن الخلافات وتسجيل المواقف، فسيسجّل التاريخ أنّ التنظيمات الفلسطينية لم يكن موقفها يرتقي إلى حجم تصفية القضية، وأنها لم تدافع عن القضية التي انطلقت من أجل تحريرها من الاحتلال.
وبناءً على ذلك، المطلوب منها القيام بالآتي:
1. الإعلان عن تشكيل قيادة موحّدة لإدارة دفَّة الصراع مع الاحتلال.
2. توحيد الإعلام حيال رفض صفقة القرن وتعبئة الشعب وحشده.
3. المصالحة مع التيار الإصلاحي الديمقراطي.
4. استنفار كلّ الطاقات والقدرة الحزبية والتنظيمية في مواجهة الاحتلال.
5. مقاطعة "إسرائيل" على المستوى الاقتصادي، وتنفيذ ذلك وصولاً إلى العصيان المدني.
ثالثاً، على المستوى الشّعبي، فالشّعب الفلسطينيّ الّذي قدَّم الشهداء والجرحى والمعتقلين، وما زال يعاني ويلات الاحتلال، ويتطلّع إلى الخلاص من الاحتلال، لا يمكن أن يبقى ساكتاً عن ضياع قضيته وتشريده من جديد.
وبناءً عليه، المطلوب منه أن يكون داعماً وسنداً للمشروع الوطني، وذلك من خلال:
1. تشكيل حاضنة حقيقية للتنظيمات الفلسطينية، وتنفيذ القرارات المتخذة.
2. المشاركة الفاعلة في مجابهة الاحتلال بكلِّ الوسائل المتاحة.
3. عدم التعامل مع دعوات الاحتلال وقراراته، مهما كلَّف من ثمن.
بخلاف ذلك، ستُنفَّذ الصّفقة، وستمرّ كما مرَّت بنودها، بدءاً بالقدس وانتهاءً بالمستوطنات، فعلى الفلسطينيين التوحّد على كلّ المستويات لرفضها قولاً وفعلاً، وأيّ تقاعص عن ذلك يصبّ في خدمة الصّفقة وأصحابها، وسوف تتحمَّل القيادة الفلسطينيّة مسؤوليّته في الدرجة الأولى. وفي الدرجة الثانية التّنظيمات والشّعب.
لصالح موقع الميادين نت
أضيف بتاريخ :2020/01/31