الجزائر لن تنزلق لمربع التطبيع
فوزي حساينية
– تأكيد رئيس الجمهورية الجزائرية السيد عبد المجيد تبون أثناء الندوة الصحفية الأخيرة، وبكل ذلك الوضوح الكاشف البيِّن على موقف الجزائر من القضية الفلسطينية، موقف سيٌحسب له، وينْضافُ بقوة الأشياء إلى رصيده السياسي، ليس فقط لأن التعبير عن مثل ذلك الموقف يُعَدُّ شجاعة سياسية متوقعة ومنتظرة ممن يرأس الجمهورية الجزائرية، بل ولأنَّ التعبير عن الموقف الداعم لفلسطين في خضم السوق الترويجية المفتوحة للتطبيع مع ” الكيان الصهيوني ” على المستوى العربي سيكون أفضل رسالة لمن لم يفهموا بعد أن الموقف من القضايا العادلة لكل دولة تحترم شخصيتها وتاريخها لا يمكن أن يكون موضع مساومات وصفقات، كما يفعل أؤلئك الذين جاؤوا إلى عالم السياسة في لحظة من لحظات الخطأ في التاريخ.
– الموقف الأخير لرئيس الجمهورية هو أيضا رسالة إلى بعض الأوساط الشاذة في الجزائر، والتي حاولت على مدار سنوات أن تفتح ثغرة في جدار الرفض الجزائري لما يُسمى بالتطبيع مع ” الكيان الصهيوني ” تحت ذرائع مختلفة ( الواقعية السياسية ، المصلحة الوطنية ، منطق العصر ) وباستخدام وسائل مختلفة ( السينما ، الصحافة ، الأدب، الحركة الجمعوية ) ومضمون هذه الرسالة، أنكم أيها الشاذون- فكريا وسياسيا وتاريخيا- لاتمثلون بسعيكم للتطبيع إلا أنفسكم، وبؤسكم الإيديولوجي، وانتماءاتكم المشبوهة…
– الجزائر لايمكنها أبدا أن تركب قطار التطبيع ، ولا تستطيع – ولو أرادت – أن تدخل إلى ماخور المُطبعين، ولا يرتبط هذا الموقف بالجانب السياسي فقط ، بل إنه يمتد عميقا ليضرب بجذوره في أعمق أعماق الشخصية الجزائرية، هذه الشخصية التي لا يمكن أن يعبِّر عن مواقفها أُؤلئك الشواذ، الذين يريدون بلهفة وبكل وسيلة ممكنة أن يُقنعوا الجزائريين أن التطبيع مع هذا الكيان غير الطبيعي ، أمر عادي بل وضروري ! متناسين ومتجاهلين الحقيقة التالية: لقد طبَّع البعض مع الكيان الصهيوني، وآخرون يسعون إلى التطبيع، ولكن أنظروا إلى كل من طبَّعوا أو الذين يسعون إلى التطبيع، أنظروا إليهم، وكيف أصبحوا بلا قيمة وبلا هدف ولا احترام وعرضة للاستخاف والتندر والإهانة.التطبيع ليس متناقضا مع الأسس البنائية للشخصية الجزائرية، وقيم ومبادئ ثورة أول نوفمبر فقط، بل هو تهديم جذري لذلك كله، وبعبارة أخرى فإن الجزائر لو تُطبِّع – لا قدر الله- فلن تكون هي الجزائر، ثمَّ إن ” اسرائيل” كيان آيل للزوال، والذين يتهافتون على التطبيع معها،يراهنون في الواقع على الأوهام، إذ لن يحققوا شيئا من وراء هذا التطبيع، والشواهد على ذلك عديدة ودامغة، وسنستعرض بعضا منها في مقالة قادمة بإذن الله.
لكن من الأهمية بمكان أن نؤكد هنا على أن الإنسان العربي يجب أن يرفض التطبيع رفضا واضحا ومبدئيا لا يستند إلى عوامل الربح والخسارة، فالأمر هنا لايتعلق بمعاملة تجارية بل بالمصير العربي الذي تعد الصهيونية وجسدها الظاهر” إسرائيل ” نقيضا مطلقا وأبديا له، يجب رفض التطبيع وإدانة المطبعين، حتى على فرض أن التطبيع سيكون مفيدا ونافعا كما تروج أبواق الدعاية الرخيصة في الوطن العربي،كما يجب أن يتحرك المثقفون العرب بكل قوة ومسؤولية ليكون التطبيع ويظل في نظر وحكم الرأي العام العربي جريمة وفضيحة وعملا شائنا ممسوخا، وليس مجرد اجتهاد سياسي، أو وجهة نظر بحجة الاضطرار الواقعي، أعرف جيدا أن العديد من الأنظمة العربية الراهنة لن تسمح بأن يُجرَّم التطبيع على أراضيها، لكن هذا لايهم، فالمهم أن نصون الوجدان العربي، وأن نحافظ على الضمير العربي محصنا ضد أوهام ودعوات وتبريرات المطبعين العرب، وأخطر أنواع التطبيع التي لابد من التصدي لها وإحباطها بقوة هي تلك الدعوات التي تتخذ من النشاط الثقافي بحقوله المختلفة بوابة لإقناع المواطن العربي أن التطبيع مع الكيان الصهيوني خطوة عادية ومفيدة أو على الأقل لا ضرر منها، التطبيع الثقافي أخطر أنواع التطبيع وأشدها فتكا بالوعي العربي، وتلويثا لثقافة الرفض والصمود والمقاومة، ولذلك فإن كل كاتب أو مثقف عربي يدعو إلى التطبيع هو في الحقيقة أخطر على الضمير والمصير العربي من أي عدو آخر، لن نتمكن من كسب معركة الوعي العربي، ما لم نتمكن من إحباط جهود ومساعي المطبعين العرب على صعيد الفكر والثقافة والفن، هنا تكمن المعركة الكبرى للوعي العربي المُراد ضربه وتمييعه، وتشكيكه في مبادئه وقناعاته، وأهم هذه القناعات والمبادئ، أن ” إسرائيل ” هي النقيض الوجودي للمصير والمستقبل العربي، وأن الإنسان العربي يتوفر على الإمكانيات الكفيلة بجعله قادرا على حسم المواجهة النهائية لصالحه وصالح الأجيال العربية الصاعدة، لكن علينا أولا أن لانخسر في الوقت الراهن معركة الوعي الصامد، والموقف الرافض، في انتظار تحولات أفضل، وهي تحولات نعيش بداياتها المُبشرة وتدل عليها مؤشرات واضحة، مضمونها أن الإنسان العربي رغم الأرزاء والمحن، ورغم الأوبئة السياسية والاقتصادية والثقافية التي يتعرض لها، لم يخرج بعد من التاريخ وإن كان يعاني بشدة من ثقله وقسوة تجلياته على كل المستويات، لكن إمكانية عودته إلى صناعة التاريخ ليست واردة فحسب بل مؤكدة، وهذا مايفسر لنا سر الهجمات التي يتعرض لها الإنسان العربي، من حروب لتدمير دوله الصامدة، وحملات منظمة لتخريب وعيه وتدمير إرادته.
– وأخيرا ، فإنَّه عند التعمق في التحليل سنجد أنَّ ليست فلسطين هي التي تحتاج إلى العرب، بل العرب هم الذين يحتاجون إلى فلسطين، فالعرب بعيدا عن القضية الفلسطينية يصغر شأنهم في نظر الأمم الأخرى،ويصبحون أشتاتا وأوزاعا دون أهمية ولا وزن، أقول ذلك : وأنا أعرف كما يعرف غيري أن فلسطين ليست قضية عربية فقط بل قضية كل المسلمين، وكل الأحرار في العالم، فلسطين باختصار، وإن كان من المُتعذر اختصار فلسطين، هي بوابة العرب وطريقهم إلى العودة إلى مكانتهم بين الشعوب والأمم واستئناف دورهم على مسرح التاريخ ، فكما كانت فلسطين هي المدخل الذي وظفته القوى الغربية لتمزيق الوطن العربي وإضعافه والسيطرة عليه ، فإن فلسطين ستكون هي المدخل لإعادة تصحيح مسار التاريخ العربي عبر تمزيق وحرق اتفاقيات اللصوص التي صدرت عن الحضارة الغربية لصالح الصهيونية العالمية على حساب العرب ومصيرهم، وعلى رأسها اتفاقية سايكس بيكو البغيضة، ووعد بلفور المشؤوم، ومؤتمر سان ريمو ببنوده الشريرة، نعم فلسطين أيها العرب هي مدخلكم إلى التاريخ من جديد، ولا مدخل آخر لكم غير فلسطين، والعربي الذي لا تكون فلسطين هي قضيته فلن تكون له أية قضية على الإطلاق، ولذلك فإن المطبعين العرب اليوم، هم شرار العرب، وقوة الشر التي يجب فضحها والتصدي لها.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2020/05/07